{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }
يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات . والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها ، وأحق كلام يوصف بهذا ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب لكمال اتباعه ، و [ سرعة ] الانقياد له ، وشكر الله على المنة به .
1- سورة " ق " هي السورة الخمسون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فكان بعد " المرسلات " .
ويبدو أن نزولها كان في أوائل العهد المكي ، إذ من يراجع ترتيب السور على حسب النزول يرى أنها لم يسبقها سوى اثنتين وثلاثين سورة ، ومعظم السور التي سبقتها كانت من الجزء الأخير من القرآن الكريم( {[1]} ) .
وهي من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها خمس وأربعون آية ، وتسمى –أيضا- بسورة " الباسقات " .
2- وقد ذكر الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره لها جملة من الأحاديث في فضلها ، منها ما رواه مسلم وأهل السنن ، عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيد بسورة " ق " وبسورة [ اقتربت الساعة . . . ] .
وروى الإمام أحمد عن أم هشام بنت حارثة قالت : ما أخذت [ ق والقرآن المجيد ] إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقرؤها كل يوم جمعة إذا خطب الناس .
ثم قال ابن كثير : والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار ، كالعيد والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور ، والمعاد والقيام ، والحساب ، والجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب . . ( {[2]} ) .
3- والحق ، أن المتأمل في هذه السورة الكريمة يراها قد اشتملت على ما ذكره الإمام ابن كثير ، بأسلوب بليغ بديع .
فهي تبدأ بالثناء على القرآن الكريم ، ثم تذكر دعاوي المشركين وترد عليهم بما يخرس ألسنتهم ، ثم توبخهم على عدم تفكرهم في أحوال هذا الكون الزاخر بالآيات والكائنات الدالة على وحدانية الله –تعالى- وقدرته .
قال –تعالى- : [ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم ، كيف بنيناها وزيناها ، وما لها من فروج . والأرض مددناها ، وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ] .
4- ثم تذكرهم –أيضا- بسوء عاقبة المكذبين من قبلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم فرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة . .
ثم تتبع ذلك بتذكيرهم بعلم الله –تعالى- الشامل لكل شيء ، وبسكرات الموت وما يتبعها من بعث وحساب ، وثواب وعقاب . .
قال –تعالى- : [ وجاءت سكرة الموت بالحق ، ذلك ما كنت منه تحيد . ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . لقد كنت في غفلة من هذا ، فكشفنا عنك عطاءك ، فبصرك اليوم حديد ] .
5- ثم تختتم السورة الكريمة ، بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من قومه ، وترشده إلى العلاج الذي يعينه على مداومة الصبر ، كما تحكي له أحوالهم يوم القيامة ليزداد يقينا على يقينه ، وتأمره بالمواظبة على تبليغهم ، بما أمره الله –تعالى- بتبليغه .
لنستمع إلى قوله –تعالى- : [ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ، ذلك يوم الخروج . إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير .
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير . نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار ، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ] .
وهكذا تطوف بنا السورة الكريمة في أعماق هذا الكون ، وفي أعماق النفس الإنسانية ، منذ ولادتها ، إلى بعثها ، إلى حسابها ، إلى جزائها . . وذلك كله بأسلوب مؤثر بديع ، يشهد بأن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
سورة " ق " من السور القرآنية ، التى افتتحت ببعض حروف التهجى ، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معنى هذه الحروف ، أنها جئ بها على سبيل الإِيقاظ والتنبيه للذين تحداهم القرآن . فكأن الله - تعالى - يقول لهؤلاء المعارضين فى أن القرآن من عند الله : ها كم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هى من جنس الحروف الهجائية التى تنظمون منها حروفكم .
فإن كنتم فى شك فى كونه منزلا من عند الله - تعالى - فهاتوا مثله ، أو عشر سور من مثله ، أو سورة واحدة من مثله .
فعجزوا وانقلبوا خاسرين ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - سبحانه - .
وهذا الرأى وهو كون " ق " من الحروف الهجائية ، هو الذى تطمئن إليه ، وهناك أقوال أخرى فى معنى هذا الحرف ، تركناها لضعفها كقول بعضهم إن " ق " اسم جبل محيط بجميع الأرض . . وهى أقوال لم يقم دليل نقلى أو عقلى على صحتها .
قال ابن كثير : وقد روى عن بعض السلف ، أنهم قالوا " ق " جبل محيط بالأرض ، يقال له جبل " قل " وكأن هذا - والله أعلم - من خرافات بنى إسرائيل أخذها عنهم بعض الناس . .
والواو فى قوله - تعالى - : { والقرآن المجيد } للقسم ، والمقسم به القرآن الكريم ، وجواب القسم محذوف لدلالة ما بعده عليه ، وهو استبعادهم لعبثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم للبعث والحساب . .
وقوله : { المجيد } صفة للقرآن . أى : ذى المجد والشرف وكثرة الخير .
ولفظ المجيد مأخوذ من المجد ، بمعنى السعة والكرم ، وأصله من مجدت الإِبل وأمجدت ، إذا وقعت فى مرعى مخصب ، واسع ، الجنبات ، كثير الأعشاب .
والمعنى : أقسم بالقرآن ذى المجد والشرف ، وذى الخير الوفير الذى يجد فيه كل طالب مقصوده ، إنك - أيها الرسول الكريم - لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق والحساب حق ، والجزاء حق . . ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوَاْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هََذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } .
اختلف أهل التأويل في قوله : ق ، فقال بعضهم : هو اسم من أسماء الله تعالى أُقسم به ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : ق و ن وأشباه هذا ، فإنه قسم أقسمه الله ، وهو اسم من أسماء الله .
وقال آخرون : هو اسم من أسماء القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله ق قال : اسم من أسماء القرآن .
وقال آخرون : ق اسم الجبل المحيط بالأرض ، وقد تقدّم بياننا في تأويل حروف المعجم التي في أوائل سور القرآن بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وَالقُرآنِ المَجِيدِ يقول : والقرآن الكريم . كما :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَير ق والقرآن المَجِيدِ قال : الكريم .
واختلف أهل العربية في موضع جواب هذا القسم ، فقال بعض نحوّيي البصرة ق والقُرآنِ المَجِيدِ قسم على قوله : قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الأرْضُ مِنْهُمْ وقال بعض نحوّيي أهل الكوفة : فيها المعنى الذي أقسم به ، وقال : ذكر أنها قضى والله ، وقال : يقال : إن قاف جبل محيط بالأرض ، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع : أي هو قاف والله قال : وكان ينبغي لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء قال : ولعلّ القاف وحدها ذكرت من اسمه ، كما قال الشاعر :
*** قُلْت لهَا قِفِي لَنَا قالَتْ قافْ ***
ذُكرت القاف إرادة القاف من الوقف : أي إني واقفة .
وهذا القول الثاني عندنا أولى القولين بالصواب ، لأنه لا يعرف في أجوبة الإيمان قد ، وإنما تجاب الأيمان إذا أجيبت بأحد الحروف الأربعة : اللام ، وإن ، وما ، ولا ، أو بترك جوابها فيكون ساقطا .