ثم قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ }
ما أحسن اتصال هذه الآية بما قبلها ، فإنه تعالى ، لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة ، وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين ، المزيلة لكل شك ، ذكر هنا أن { مِنَ النَّاسِ } مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين أندادا لله أي : نظراء ومثلاء ، يساويهم في الله بالعبادة والمحبة ، والتعظيم والطاعة .
ومن كان بهذه الحالة - بعد إقامة الحجة ، وبيان التوحيد - علم أنه معاند لله ، مشاق له ، أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته ، فليس له أدنى عذر في ذلك ، بل قد حقت عليه كلمة العذاب .
وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله ، لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير ، وإنما يسوونهم به في العبادة ، فيعبدونهم ، ليقربوهم إليه ، وفي قوله : { اتخذوا } دليل على أنه ليس لله ند وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له ، تسمية مجردة ، ولفظا فارغا من المعنى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ }
{ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ } فالمخلوق ليس ندا لله لأن الله هو الخالق ، وغيره مخلوق ، والرب الرازق ومن عداه مرزوق ، والله هو الغني وأنتم الفقراء ، وهو الكامل من كل الوجوه ، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه ، والله هو النافع الضار ، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء ، فعلم علما يقينا ، بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا ، سواء كان ملكا أو نبيا ، أو صالحا ، صنما ، أو غير ذلك ، وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة ، والذل التام ، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } أي : من أهل الأنداد لأندادهم ، لأنهم أخلصوا محبتهم له ، وهؤلاء أشركوا بها ، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة ، الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه ، والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئا ، ومحبته عين شقاء العبد وفساده ، وتشتت أمره .
فلهذا توعدهم الله بقوله : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله ، وسعيهم فيما يضرهم .
{ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ } أي : يوم القيامة عيانا بأبصارهم ، { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } أي : لعلموا علما جازما ، أن القوة والقدرة لله كلها ، وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء ، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها ، لا كما اشتبه عليهم في الدنيا ، وظنوا أن لها من الأمر شيئا ، وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه ، فخاب ظنهم ، وبطل سعيهم ، وحق عليهم شدة العذاب ، ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا ، ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع ، بل يحصل لهم الضرر منها ، من حيث ظنوا نفعها .
وبعد أن ذكر - سبحانه - جانباً من الآيات الدالة على ألوهيته ووحدانيته ، أردف ذلك ببيان حال المشركين ، وما يكون منهم يوم القيامة من تدابر وتقاطع وتحسر على ما فرط منهم فقال - تعالى - :
{ وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً . . . }
{ أَندَاداً } : جمع ند ، وهو مثل الشيء الذي يضاده وينافره ويتباعد عنه . وأصله من ند البعير يند نداً ونداداً وندوداً ، أي : نفر وذهب على وجهه شارداً . ويرى بعض العلماء أن المراد بالأنداد هنا الأصنام التي اتخذها المشركون آلهة للتقرب بها إلى الله ، وقيل : المراد بها الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم فيما يحلونه لهم ويحرمونه عليهم . والأولى أن يكون المراد بهذه الأنداد كل مخلوق أسند إليه أمر اختص به الله - تعالى - من نحو التحليل ، والتحريم وإيصال النفع وغير ذلك من الأمور التي انفرد بها الخالق - عز وجل - .
والمعنى : أن من الناس من لا يعقل تلك الآيات التي دلت على وحدانية الله وقدرته ، وبلغفت بهم الجهالة أنهم يخضعون لبع المخلوقات خضوعهم لله بزعم أنها مشابهة ومماثلة ومناظرة له - سبحانه - في النفع والضر ، ويحبون تعظيم تلك المخلوقات وطاعتها والتقرب إليها والانقياد لها حبا يشابه الحب اللازم عليهم نحو الله - تعالى - أو يشابه حب المؤمنين لله ، و { مِنَ } في قوله : { وَمِنَ الناس } للتبعيض ، والجار والمجرور خبر مقدم و { مِنَ } في قوله : { مَن يَتَّخِذُ } في محل رفع مبتدأ مؤخر ، و " من دون الله ، حال من ضمير يتخذ و { أَندَاداً } مفعول به ليتخذ .
قال الجمل : وجملة { يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله } فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون في محل رفع صفة لمن في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ في يتخذ .
والثاني : أن تكون في محل نصب صفة لأنداداً والضمير المنصوب يعود عليهم والمراد بهم الأصنام ، وإنما جمعوا جمع العقلاء لمعاملتهم معالمة العقلاء . أو أن يكون المراد بهم من عبد من دون الله عقلاء وغيرهم ثم غلب العقلاء على غيرهم .
الثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في يتخذ ، والضمير المرفوع عائد على ما عاد عليه الضمير في يتخذ وجمع حملا على المعنى .
ثم مدح - سبحانه - عبادة المؤمنين فقالك { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } .
أي : والذين آمنوا وأخلصوا لله العبادة أشد حباً له - سبحانه - من كل ما سواه ، ومن حب المشركين للأنداد ، ذلك لأن حب المؤمنين لله متولد عن أدلة يقينية ، وعن علم تام ، ببديع حكمته - سبحانه - وبالغ حجته ، وسعة رحمته ، وعدالة أحكامه ، وعزة سلطانه ، وتفرده بالكمال المطلق ، والحب المتولد عن هذا الطريق يكون أشد من حب المشركين لمعبوداتهم لأن حب المشركين لمعبوداتهم متولد عن طريق الظنون والأوهام والتقاليد الباطلة .
والتصريح بالأشدية في قوله : { أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } أبلغ من أن يقال أحب لله ؟ إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل - كما يقول الآلوسي - بل المراد الرسوخ والثبات .
وقيل : عدل عن أحب إلى أشد حباً ، لأن " حب " شاع في الأشد محبوبية فعدل عنه احترازاً عن اللبس .
ولقد ضرب المؤمنون الصادقون أروع الأمثال في حبهم لله - تعالى - لأنهم ضحوا في سبيله بأرواحهم وأموالهم وأبنائهم وأغلى شيء لديهم ، ولأنهنم لم يعرفوا عملا يرضيه إلا فعلوه ، ولم يعرفوا عملا يغضبه إلا اجتبوه .
ثم أخبر - سبحانه - عما ينتظر الظالمين من سوء المصير فقال : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } { لَوْ } شرطية ، وجوابها محذول لقصد التهويل ولتذهب النفس في تصويرها كل مذهب و { القوة } القدرة والسلطان .
والمعنى : ولو يرى أولئك المشركون حين يشاهدون العذاب المعدلهم يوم القيامة أن القدرة كلها لله وحده ، وأن عذابه الذي يصيب به المتخطبين في ظلمات الشرك شديد ، لو يعلمون ذلك ، لرأوا ما لا يوصف من الهول والفظاعة ، ولوقعوا فيما لا يكاد يوصف من الحسرة والندامة .
وكان الظاهر بمقتضى تقدم ذكرهم أن يقال : ولو يرون إذ يرون . ولكن وضع الموصول وصلته موضع الضمير ، ليحضر في ذهن السامع أنهم صاروا باتخاذهم الأنداد من الظالمين ، وليشعر بأن سبب رؤيتهم العذاب الشديد هو ذلك الظلم العظيم .
وعبر بالماضي في قوله : { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } لتحقق الوقوع ، ولك ما كان كذلك فإنه يجري مجري ما وقع وحصل .
وجملة { أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً } سدت مسد مفعولي يرى ، وانتصب لفظ { جَمِيعاً } على التوكيد للقوة . أي . جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة في عدم الاعتداد بقوة غيره ، فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله : { الحمد للَّهِ } وجملة { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } معطوفة على ما قبلها ، وفائدتها المبالغة في تفظيع الخطب ، وتهويل الأمر ، فإن اختصاص القوة به - تعالى - لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه .
هذا ، وقد قرأ نافع وابن عمر " ولو ترى " بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى له الخطاب .
أي : لو ترى ذلك أيها الرسول الكريم أو أيها المخاطب لرأيت أمراً عظمياً في الفظاعة والهول .
{ وَمِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنّ الْقُوّةَ للّهِ جَمِيعاً وَأَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }
يعني تعالى ذكره بذلك : أن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا له ، وقد بينا فيما مضى أن الند العدل بما يدل على ذلك من الشواهد فكرهنا إعادته ، وأن الذين اتخذوا هذه الأنداد من دون الله يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله ، ثم أخبرهم أن المؤمنين أشد حبّا لله من متخذي هذه الأنداد لأندادهم .
واختلف أهل التأويل في الأنداد التي كان القوم اتخذوها وما هي ؟ فقال بعضهم : هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أشَدّ حُبّا لِلّهِ من الكفار لأوثانهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره : يُحِبوّنَهُمْ كَحُبّ اللّهِ مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد . وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّا للّهِ من الكفار لأوثانهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ قال : هي الاَلهة التي تعبد من دون الله . يقول : يحبون أوثانهم كَحبّ اللّهِ وَالّذينَ آمنُوا أشدّ حبّا لِلّهِ ، أي من الكفار لأوثانهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدَادا يُحِبّوَنُهمْ كَحُبّ اللّهِ قال : هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحبّ الذين آمنوا الله ، والّذينَ آمنُوا أشدّ حبّا لِلّهِ من حبهم هم آلهتهم .
وقال آخرون : بل الأنداد في هذا الموضع إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : ( حدثنا عمرو ، قال : ) حدثنا أسباط ، عن السدي : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أنْدادا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ قال : الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله .
فإن قال قائل : وكيف قيل كحبّ الله ، وهل يحبّ الله الأنداد ؟ وهل كان متخذو الأنداد يحبون الله فيقال يحبونهم كحبّ الله ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه ، وإنما نظير ذلك قول القائل : بعت غلامي كبيع غلامك ، بمعنى : بعته كما بيع غلامك وكبيعك غلامك ، واستوفيت حقي منه استيفاء حقك ، بمعنى : استيفائك حقك . فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطب اكتفاء بكنايته في «الغلام » و«الحق » ، كما قال الشاعر :
فَلَسْتُ مُسَلّما ما دُمْتُ حَيّا عَلى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِيرِ
يعني بذلك : كما يُسَلّم على الأمير .
فمعنى الكلام إذا : ومن الناس من يتخذ أيها المؤمنون من دون الله أندادا يحبونهم كحبّ الله .
القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ .
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه عامة أهل المدينة والشام : وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا بالتاء إذْ يَروْنَ العَذَابِ بالياء أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأن اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بفتح «أن » و«أن » كلتيهما ، بمعنى : ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله ويعاينونه ، أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ثم في نصب «أن » و«أن » في هذه القراءة وجهان : أحدهما أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذْ يرون عذاب الله لأقرّوا . ومعنى ترى : تبصر أن القوّة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون الجواب حينئذ إذ فتحت «أن » على هذا الوجه متروكا قد اكتفي بدلالة الكلام عليه ، ويكون المعنى ما وصفت . فهذا أحد وجهي فتح ( أن ) على قراءة من قرأ : وَلَوْ تَرَى بالتاء .
والوجه الاَخر في الفتح ، أن يكون معناه : ولو ترى يا محمد إذ يرى الذين ظلموا عذاب الله ، لأن القوّة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب ، لعلمت مبلغ عذاب الله . ثم تحذف اللام فتفتح بذلك المعنى لدلالة الكلام عليها .
وقرأ ذلك آخرون من سلف القرّاء : وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وَإنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا حين يعاينوا عذاب الله لعلمت الحال التي يصيرون إليها . ثم أخبر تعالى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه بعد تمام الخبر الأول ، فقال : إن القوة لله جميعا في الدنيا والاَخرة دون من سواه من الأنداد والاَلهة ، وإن الله شديد العذاب لمن أشرك به وأدّعى معه شركاء وجعل له ندّا .
وقد يحتمل وجها آخر في قراءة من كسر «إن » في «ترى » بالتاء ، وهو أن يكون معناه : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذاب ، يقولون : إن القوّة لله جميعا ، وإن الله شديد العذاب . ثم تحذف القول وتكتفي منه بالمقول .
وقرأ ذلك آخرون : وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا بالياء إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أنّ القوّة لله جميعا وأنّ الله شَدِيدُ العَذَابِ بفتح الألف من أنّ وأن ، بمعنى : ولو يرى الذين ظلموا عذاب الله الذي أعدّ لهم في جهنم لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، إذ يرون العذاب . فتكون «أن » الأولى منصوبة لتعلقها بجواب «لو » المحذوف ، ويكون الجواب متروكا ، وتكون الثانية معطوفة على الأولى وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن تأويل قراءة من قرأ : وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوّةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ بالياء في يرى وفتح الألفين في «أن » و«أن » : ولو يعلمون ، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب . وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم ، فإذا قال : «ولو ترى » ، فإنما يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ولو كسر «إن » على الابتداء إذا قال : «ولو يرى » جاز ، لأن «لو يرى » : لو يعلم ، وقد يكون «لو يعلم » في معنى لا يحتاج معها إلى شيء ، تقول للرجل : أما والله لو يعلم ولو تعلم ، كما قال الشاعر :
إنْ يَكُنْ طِبّكِ الدّلالُ فَلَوْ فِي سالِفِ الدّهْرِ وَالسّنِينَ الخَوَالي
هذا ليس له جواب إلا في المعنى ، وقال الشاعر :
وبِخَطَ مِمّا نَعِيشُ وَلا تَذْهَبْ بِكَ التّرّهاتُ فِي الأهْوَالِ
قال : وقال بعضهم : «ولو ترى » وفتح «أنّ » على «ترى » وليس بذلك ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم ، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناس كما قال تعالى ذكره : أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ليخبر الناس عن جهلهم ، وكما قال : ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ .
قال أبو جعفر : وأنكر قوم أن تكون «أنّ » عاملاً فيها قوله : ولو يرى ، وقالوا : إن الذين ظلموا قد علموا حين يرون العذاب أن القوّة لله جميعا ، فلا وجه لمن تأوّل ذلك : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله . وقالوا : إنما عمل في «أن » جواب «لو » الذي هو بمعنى العلم ، لتقدم العلم الأول .
وقال بعض نحويي الكوفة : من نصب : أن القوة لله وأن الله شديد العذاب ممن قرأ : ولو يَرى بالياء فإنما نصبها بإعمال الرؤية فيها ، وجعل الرؤية واقعة عليها . وأما من نصبها ممن قرأ : «ولو ترى » بالتاء ، فإنه نصبها على تأويل : لأن القوّة لله جميعا ، ولأن الله شديد العذاب . قال : ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء فإنه يكسرهما على الخبر .
وقال آخرون منهم : فتح «أنّ » في قراءة من قرأ : ولو يرى الذين ظلموا بالياء بإعمال «يرى » ، وجواب الكلام حينئذ متروك ، كما ترك جواب : وَلَوْ أنّ قُرآنا سُيّرَتْ بِهِ الجِبالُ أوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرْضُ ، لأن معنى الجنة والنار مكرّر معروف . وقالوا : جائز كسر «إن » في قراءة من قرأ بالياء ، وإيقاع الرؤية على «إذ » في المعنى ، وأجازوا نصب «أن » على قراءة من قرأ ذلك بالتاء لمعنى نية فعل آخر ، وأن يكون تأويل الكلام : ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب ( يرون ) أن القوة لله جميعا . وزعموا أن كسر «إن » الوجه إذا قرئت : «ولو ترى » بالتاء على الاستئناف ، لأن قوله : «ولو ترى » قد وقع على «الذين ظلموا » .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك : وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا بالتاء من «ترى » إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوَةَ للّهِ جَميعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بمعنى لرأيت أن القوة للّه جميعا وأن الله شديد العذاب ، فيكون قوله «لرأيت » الثانية محذوفة مستغنى بدلالة قوله : «ولو ترى الذين ظلموا » عن ذكره ، وإن كان جوابا ل «لو » ويكون الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم معنيا به غيره ، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالما بأن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، ويكون ذلك نظير قوله : ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ وقد بيناه في موضعه .
وإنما اخترنا ذلك على قراءة الياء لأن القوم إذا رأوا العذاب قد أيقنوا أن القوّة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب ، فلا وجه أن يقال : لو يرون أن القوّة لله جميعا حينئذ ، لأنه إنما يقال : «لو رأيت » لمن لم ير ، فأما من قد رآه فلا معنى لأن يقال له : «لو رأيت » .
ومعنى قوله : إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إذ يعاينون العذاب . كما :
1998حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ يقول : لو عاينوا العذاب .
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم فاتخذوا من دوني أندادا يحبونهم كحبكم إياي ، حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم ، لعلمتم أن القوّة كلها لي دون الأنداد والاَلهة ، وأن الأنداد والاَلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ، ولا تدفع عنهم عذابا أحللته بهم ، وأيقنتم أني شديدٌ عذابي لمن كفر بي وادّعى معي إلها غيري .