فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

{ لقد } لام قسم { أرسلنا رسلنا } أي الملائكة ، قاله الزمخشري والمحلي ، وفيه بعد ، وجمهور المفسرين على حمل الرسل على البشر { بالبينات } أي بالمعجازات البينة ، والشرائع الظاهرة { وأنزلنا معهم الكتاب } المراد الجنس ، فيدخل فيه كتاب كل رسول { والميزان ليقوم الناس بالقسط } قال قتادة ومقاتل بن حيان : الميزان العدل ، والمعنى أمرناكم بالعدل كما في قوله : { والسماء رفعها ووضع الميزان } ، وقوله : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } وقال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل به ، والمعنى ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة ، والقسط العدل ، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل ، ومعنى إنزاله إنزال أسبابه وموجباته ، وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه ، وإلهامهم الوزن به ، ويكون الكلام من باب : ( علفتها تبنا وماءا باردا ) .

{ وأنزلنا الحديد } أي خلقناه كما في قوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وهذا قول الحسن ، والمعنى أنه خلقه وأخرجه من المعادن ، وعلم الناس صنعته ، وقيل : إنه نزل مع آدم { فيه بأس شديد } لأنه تتخذ منه آلات الحرب ، قال الزجاج : يمتنع به ويحارب ، والمعنى أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب ، قال مجاهد : فيه جنة وسلاح وقوة وشدة { ومنافع للناس } أي أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه ، مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والتجارة والعمارة ، قال البيضاوي : ما من صنعة إلا والحديد آلتها أي له دخل في آلتها ، وهذا الحصر كلي كما هو مشاهد .

{ وليعلم الله من ينصره ورسله } معطوف على قوله . ليقوم أي لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ، ليقوم الناس ، وليعلم الله علم مشاهدة أو معطوف على علة مقدرة كأنه قيل : ليستعملوه وليعلم الله ، والأول أولى ، والمعنى أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرا ، ومن عصى علمه بخلاف ذلك ، ومعنى { بالغيب } غائبا عنهم أو غائبين عنه .

{ إن الله قوي عزيز } أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء ، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله ، بل كلفهم بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا ، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين ، قال أبو نصر العتبي : وقد كان يختلج في صدري معنى هذه الآية لجمعهما بين الكتاب والميزان والحديد على تنافر ظاهرها في المناسبة ، وبعدها قبل الروية والاستنباط ، وسألت عدة من أعيان العلماء المذكورين بالتفسير ، والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب ، حتى أعملت التفكر ، وأمعنت التدبر ، فوجدت الكتاب قانون الشريعة ، ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد ، ويفصل جمع الفرائض ، فيرتهن مصالح الأبدان والنفوس ، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود ، قد حظر فيه التعادي والتظالم ، ورفض التباغي والتخاصم ، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم ، بين رجع السماء وصدع الأرض ، ليكون ما يصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب ، دون التغلب والتوثب ، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع الصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة للعدل ، يقع بها التعامل ، ويعم معها التساوي والتعادل فألهمهم الله تعالى اتخاذ الآلة التي هي الميزان ، فيما يأخذونه ويعطونه ، لئلا يتظالموا بمخالفته ، فيهلكوا به إذ لم يكن ينتظم لهم العيش مع سوغ ظلم البعض منهم على البعض .

ويدل على هذا المعنى قوله تعالى { والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان ، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان } وذلك أنه تعالى جعل السماء علة للأرزاق والأقوات من أنواع الحبوب والنبات ، فكان ما يخرج منها من أغذية العباد ، ومرافق حياتهم ، مضطرا إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف دون الجزاف ، ولم يكن يتم ذلك إلا بهذه الآلة المذكورة ، فنبه الله تعالى على موقع الفائدة والعائدة بها ، بتكرير ذكره ، فكان ما تقدم ذكره معنى الكتاب والميزان .

ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية ، والآلة الموضوعة للعامل بالسوية إنما يحفظ على إتباعهما ويضطر العالم إلى التزام أحكامهما بالسيف ، الذي هو حجة الله تعالى على من جحد وعند ، ونزع من صفة الجماعة اليد ، وهو بارق سطوته ، وشهاب نقمته ، وجذوة عقابه ، وعذبة عذابه ، فهذا السيف هو الحديد ، الذي وصف الله تعالى بالبأس الشديد ، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب ، متدانية الجنوب ، محكمة المطالع ، مقومة المبادئ والمقاطع ، فظهر بهذا التأويل معنى الآية ، وبان أن السلطان خليفة الله على خلقه ، وأمينه على رعاية حقه ، بما قلده من سيفه ، ومكن له في أرضه . انتهى المقصود منه .