فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَـٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَـٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۭ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (92)

قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً ، وهو يستلزم صدقه ، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط ؛ وقيل المعنى : ما كان له ذلك في عهد الله ، وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف ، كما ليس له الآن ذلك بوجه ، ثم استثنى منه استثناء منقطعاً فقال : إلا خطأ ، أي : ما كان له أن يقتله البتة ، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ، هذا قول سيبويه ، والزجاج ، وقيل : هو استثناء متصل ؛ والمعنى : وما ثبت ، ولا وجد ، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب حينئذ ، وقيل : المعنى : ولا خطأ . قال النحاس : ولا يعرف ذلك في كلام العرب ، ولا يصح في المعنى ؛ لأن الخطأ لا يحظر ؛ وقيل : إن المعنى : ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، فيكون قوله خطأ منتصباً بأنه مفعول له ، ويجوز أن ينتصب على الحال ، والتقدير : لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : إلا قتلاً خطأ ، ووجوه الخطأ كثيرة ، ويضبطها عدم القصد ، والخطأ الاسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد . قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي : فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات .

واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة ، فقيل : هي التي صلت ، وعقلت الإيمان فلا تجزئ الصغيرة ، وبه قال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم . وقال عطاء بن أبي رباح : إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين . وقال جماعة منهم مالك ، والشافعي : يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات ، ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى ، ولا مقعد ، ولا أشلّ ، ويجزئ عند الأكثر الأعرج ، والأعور . قال مالك : إلا أن يكون عرجاً شديداً . ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون ، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع . قوله : { وَدِيَةٌ مسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } الدية : ما تعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته ، والمسلمة : المدفوعة المؤداة ، والأهل المراد بهم : الورثة ، وأجناس الدية ، وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة . قوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا } أي : إلا أن يتصدّق أهل المقتول على القاتل بالدية ، سمي العفو عنها صدقة ترغيباً فيه . وقرأ أبيّ : إلا يتصدقوا ، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله : { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } أي : فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها . قوله : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } أي : فإن كان المقتول من قوم عدوّ لكم ، وهم الكفار الحربيون ، وهذه مسئلة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ، ثم أسلم ، ولم يهاجر ، وهم يظنون أنه لم يسلم ، وأنه باق على دين قومه ، فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة .

واختلفوا في وجه سقوط الدية ، فقيل : وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية ، وقيل : وجهه أن هذا الذي آمن ، ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى : { والذين ءامَنُوا وَلَمْ يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء } [ الأنفال : 72 ] وقال : بعض أهل العلم إن ديته واجبة لبيت المال .

قوله : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } أي : مؤقت أو مؤبد . وقرأ الحسن : «وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ » أي : فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام ، وهم ورثته { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } كما تقدم { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي : الرقبة ، ولا اتسع ماله لشرائها { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : فعليه صيام شهرين متتابعين ، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار ، فلو أفطر استأنف ، هذا قول الجمهور ، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف . واختلف في الإفطار لعرض المرض . قوله : { تَوْبَةً مّنَ الله } منصوب على أنه مفعول له ، أي : شرع ذلك لكم توبة ، أي : قبولاً لتوبتكم ، أو منصوب على المصدرية ، أي : تاب عليكم توبة ، وقيل : منصوب على الحال : أي : حال كونه ذا توبة كائنة من الله . قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً .

وقد اختلف العلماء في معنى العمد ، فقال عطاء ، والنخعي ، وغيرهما : هو القتل بحديدة كالسيف ، والخنجر ، وسنان الرمح ، ونحو ذلك من المحدّد ، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقال الجمهور : إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة ، أو بحجر ، أو بعصى ، أو بغير ذلك ، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ . واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها . وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين : عمد ، وخطأ ولا ثالث لهما . واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان . ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة ، وقد ثبت ذلك في السنة .

وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً ، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له ، أي : يستحقها بسبب هذا الذنب ، وبين كونه خالداً فيها ، وبين غضب الله عليه ، ولعنته له ، وإعداده له عذاباً عظيماً . وليس وراء هذا التشديد تشديد ، ولا مثل هذا الوعيد وعيد . وانتصاب خالداً على الحال .

وقوله : { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } معطوف على مقدّر ، يدل عليه السياق ، أي : جعل جزاءه جهنم ، أو حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعدّ له .

وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له ؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيها علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها ، فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } .

/خ93