فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ إِنَّ ٱلۡكَٰفِرِينَ كَانُواْ لَكُمۡ عَدُوّٗا مُّبِينٗا} (101)

قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } قد تقدّم تفسير الضرب في الأرض قريباً . قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فيه دليل على أن القصر ليس بواجب ، وإليه ذهب الجمهور . وذهب الأقلون إلى أنه واجب ، ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون ، والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وهو مرويّ عن مالك . واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح : «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيدت في الحضر ، وأقرّت في السفر » ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثله حديث يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا } وقد أمن الناس ، فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » أخرجه أحمد ، ومسلم ، وأهل السنن . وظاهر قوله : «فاقبلوا صدقته » أن القصر واجب .

قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا } ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ولكنه قد تقرّر بالسنة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن ، كما عرفت . فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب ، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة ، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضته ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن . وقد قيل : إن هذا الشرط خرّج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدّم . وفي قراءة أبيّ : «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا » بسقوط { إِنْ خِفْتُمْ } والمعنى على هذه القراءة كراهة أن يفتنكم الذين كفروا . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدّو ، فمن كان آمناً ، فلا قصر له . وذهب آخرون إلى أن قوله : { إِنْ خِفْتُمْ } ليس متصلاً بما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : { مِنَ الصلاة } ثم افتتح فقال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا } فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف . وقوله : { إِنَّ الكافرين كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } معترض ، ذكر معنى هذا الجرجاني ، والمهدوي ، وغيرهما . ورده القشيري ، والقاضي أبو بكر بن العربي . وقد حكى القرطبي ، عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه ، ومما يرد هذا ، ويدفعه الواو في قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } وقد تكلف بعض المفسرين ، فقال : إن الواو زائدة ، وإن الجواب للشرط المذكور ، أعني قوله : { إِنْ خِفْتُمْ } هو قوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ } وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهي حديث عمر الذي قدّمنا ذكره ، وما ورد في معناه .

قوله : { أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا } قال الفراء : أهل الحجاز يقولون ، فتنت الرجل ، وربيعة ، وقيس ، وأسد ، وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل ، وفرق الخليل ، وسيبويه بينهما ، فقالا فتنته : جعلت فيه فتنة مثل كحلته ، وأفتنته : جعلته مفتناً ، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته . والمراد بالفتنة : القتال ، والتعرّض بما يكره قوله : { عَدُوّا } أي : أعداء .

/خ102