فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

قوله : { التائبون } خبر مبتدأ محذوف : أي هم التائبون ، يعني : المؤمنون ، والتائب الراجع : أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة . وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : { التائبون العابدون } رفع بالابتداء وخبره مضمر : أي التائبون ، ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً ، وإن لم يجاهدوا . قال : وهذا أحسن ، إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين في قوله : { اشترى مِنَ المؤمنين } لكان الوعد خاصاً بمجاهدين . وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين ، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى ، وأنها على جهة الشرط : أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : التائبين العابدين إلى آخرها . وفيه وجهان : أحدهما : أنها أوصاف للمؤمنين . الثاني : أن النصب على المدح . وقيل : إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير يقاتلون ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون التائبون مبتدأ ، وخبره العابدون ، وما بعده أخبار ، كذلك أي : التائبون من الكفر على الحقيقة ، الجامعون لهذه الخصال ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص . و { الحامدون } الذين يحمدون الله سبحانه على السرّاء والضرّاء ، و { السائحون } قيل : هم الصائمون ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قوله تعالى : { عابدات سائحات } وإنما قيل للصائم سائح ؛ لأنه يترك اللذات ، كما يتركها السائح في الأرض ، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب :

وبالسائحين لا يذوقون فطرة *** لربهم والراكدات العوامل

وقال آخر :

تراه يصلي ليله ونهاره *** يظل كثير الذكر لله سائحا

قال الزجاج : ومذهب الحسن أن السائحين ها هنا هم الذين يصومون الفرض ، وقيل : إنهم الذين يديمون الصيام . وقال عطاء : السائحون المجاهدون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : السائحون : المهاجرون . وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم . وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته ، وما خلق من العبر . والسياحة في اللغة أصلها : الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه ، و { الراكعون الساجدون } معناه : المصلون ، و{ الآمرون بالمعروف } القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة { والناهون عَنِ المنكر } القائمون بالإنكار على من فعل منكراً : أي شيئاً ينكره الشرع { والحافظون لِحُدُودِ الله } القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه ، وعلى لسان رسله ، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين ، وهما : { والناهون عَنِ المنكر والحافظون } الخ ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة ، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه .

/خ112