فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَيۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيۡهِمۡ لِيَتُوبُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (118)

قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلفُواْ } أي : وتاب على الثلاثة الذين خلفوا : أي أخروا ، ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم . قال ابن جرير : معنى خلفوا : تركوا ، يقال : خلفت فلاناً فارقته . وقرأ عكرمة بن خالد «خلفوا » بالتخفيف : أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو . وقرأ جعفر بن محمد «خالفوا » وهؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، أو ابن ربيعة العامري ، وهلال ابن أمية الواقفي ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم ، حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم ؛ وقيل : معنى خلفوا : فسدوا ، مأخوذ من خلوف الفم . قوله : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } معناه : أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية ، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، و ما مصدرية : أي برحبها ، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم . والرحب : الواسع . يقال : منزل رحب ورحيب ورحاب . وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم ؛ لينزجروا عن المعاصي . ومعنى ضيق أنفسهم عليهم : أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة ، وعبر بالظن في قوله : { وَظَنُّواْ أَن لا مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } عن العلم : أي علموا أن لا ملجأ يلجئون إليه قط ، إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار . قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } أي : رجع عليهم بالقبول والرحمة ، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ، ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم { إِنَّ الله هُوَ التواب } أي : الكثير القبول لتوبة التائبين ، { الرحيم } أي : الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده .

/خ119