{ ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير }
الوزر : الإثم والثقل أي : لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى بل كل وازرة تحمل وزرها وحدها .
مثقلة : نفس أثقلها الإثم حتى لم تقدر على الحركة .
لا يحمل منه شيء : لا تجد من سيستجيب لها ، ويحمل عنها بعض ذنبها حتى لو دعت ابنها أو أباها أو أمها فضلا عن غيرهم .
بالغيب : لأنهم لم يروه بأعينهم .
ومن تزكى : طهر نفسه من الشرك والمعاصي .
فإنما يتزكى لنفسه : فإن ثمرة صلاحه تعود إليه .
روى أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم ، فنزلت هذه الآية : ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهذه الآية من مفاخر الإسلام لتحقيق مبدأ المسؤولية الشخصية في الدنيا والآخرة فلا يسأل إنسان عن جريمة غيره ولا يتحمل امرؤ عقوبة جان آخر .
ولا تحمل نفس مثقلة بالذنوب ذنب نفس أخرى كل امرئ بما كسب رهين . ( الطور : 21 ) .
فعدالة الله تأبى أن يعذب إنسان بذنوب آخر وفي القرآن الكريم على لسان يوسف الصديق : قال معاذ الله أن تأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون . ( يوسف : 79 ) .
وفي يوم القيامة يعظم الهول ويتشوف كل إنسان إلى النجاة بنفسه من هذا اليوم العصيب حتى يذهل الإنسان عن أقاربه وعن فلذة كبده ، ويفر من اقرب الناس إليه لشدة انشغاله بالنجاة من النار .
{ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } وإن طلبت نفس مثقلة بالأوزار والذنوب مساعدة من نفس أخرى لتحمل عنها أي ذنب من ذنوبها لم تلق أي استجابة ولم تجد من يحمل عنها بعض ذنوبها ولو كانت قريبة لها في النسب كالأب والابن والزوجة ، لأن كل إنسان مشغول بنفسه وحاله وله من الهموم ما يغنيه .
قال تعالى : يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه *لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . . ( عبس : 34-37 ) .
وقال تعالى : يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا . . ( لقمان : 33 ) .
إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة ، فيقول : يا بني أي والد كنت لك ؟ فيثني خيرا فيقول : يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة ، من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل ما تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة ، أو يا هذه أي زوج كنت لك ؟ فتثني خيرا فيقول لها : إني أطلب حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو بها مما ترين فتقول له : ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا إني أتخوف مثل الذي تتخوف فذلك قوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها منه شيء ولو كان ذا قربى . . .
وقال الفضيل بن عياض : هي المرأة تلقى ولدها فتقول يا ولدي : ألم يكن بطني لك وعاء ؟ الم يكن ثديي لك سقاء ؟ ألم يكن حجري لك وطاء ؟ فيقول : بلى يا أماه فتقول يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا فيقول : إليك عني يا أماه فإني بذنبي عنك مشغول .
{ إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلواة . . . }
أي : إنما يتعظ بما جئت به أيها الرسول أولو البصيرة والعقل الذين يخشون الله في خلواتهم أو يخافون من عذاب ربهم قبل معاينته ، و قد حافظوا على إقامة الصلاة في أوقاتها كاملة الأركان في خشوع وخضوع ومناجاة لله رب العالمين .
{ ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه . . . . } ومن تطهر من الذنوب والمعاصي وأطاع الله بصنوف الطاعات واستجاب لدعوة الرسول الأمين ولوحي الله رب العالمين فإنما يتطهر لنفسه وفائدة الطهارة والسمو الروحي والسلوك الأمثل يعود نفعها على فاعلها .
قال ابن كثير : ومن عمل صالحا فإنما يعود على نفسه .
{ وإلى الله المصير . . . } أي : وإليه المرجع والمآب وهو سريع الحساب وسيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
قوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة } أي : نفس مثقلة بذنوبها غيرها ، { إلى حملها } أي : حمل ما عليها من الذنوب ، { لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } أي : ولو كان المدعو ذا قرابة له ابنه أو أباه أو أمه أو أخاه . قال ابن عباس : يلقى الأب والأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي ، فيقول : لا أستطيع حسبي ما علي . { إنما تنذر الذين يخشون } يخافون ، { ربهم بالغيب } ولم يروه . وقال الأخفش : تأويله أي : إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب ، { وأقاموا الصلاة ومن تزكى } أصلح وعمل خيراً ، { فإنما يتزكى لنفسه } لها ثوابه . { وإلى الله المصير* }
ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً ، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب ، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب : { ولا } أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا { تزر } أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب ، ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله ، والمعصوم من عصم الله ، قال : { وازرة } دون نفس ، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم { وزر } أي حمل وثقل { أخرى } لتعذب به ، بل كل واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر ، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو ، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تفعل جبابرة الدنيا .
ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر ، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره ، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص ، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ ، نفى ذلك الإيهام ودل على القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله : { وإن تدع } أي نفس { مثقلة } أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره ، أحداً { إلى حملها } أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف عنها العذاب بسبب خفته { لا يحمل } أي من حامل ما { منه شيء } أي لا طواعية ولا كرهاً . بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً { ولو كان } ذلك الداعي أو المدعو للحمل { ذا قربى } لمن دعاه ، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه ، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم .
ولما كان هذا أمراً - مع كونه جلياً - خالعاً للقلوب ، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى ، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة : { إنما تنذر } أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار ، وهو كما قال القشيري : الإعلام بموضع المخافة . { الذين يخشون } أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال . ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال : { ربهم } .
ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره ، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها ، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال : { بالغيب } أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به ، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته ، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله ، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك .
ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن ، فكانت أشرف العبادات ، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص ، قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة : { وأقاموا } أي دليلاً على خشيتهم { الصلاة } في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن .
ولما كان التقدير : فمن كان على غير ذلك تدسى ، ومن كان على هذا فقد تزكى ، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه ، عطف عليه قوله ، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس ، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم . { ومن تزكّى } أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن . ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال : { فإنما يتزكّى لنفسه } فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها { وإلى الله } الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره { المصير * } كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك .