سورة الصافات مكية ، وآياتها ( 182 ) آية ، نزلت بعد سورة الأنعام في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، فقد نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة إلى المدينة .
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها بالقسم بالصافات ، والمراد بها : الملائكة التي تقف صفوفا للعبادة ، أو تصف أجنحتها في الهواء امتثالا للطاعة ، وانتظارا لوصول أمر الله إليها .
معظم مقصود السورة هو : الإخبار عن صف الملائكة والمصلين للعبادة ، ودلائل الوحدانية ، ورجم الشياطين ، وذل الظالمين ، وعز المطيعين في الجنان ، وقهر المجرمين في النيران ، ومعجزة نوح ، وحديث إبراهيم ، وفداء إسماعيل في جزاء الانقياد ، وبشارة إبراهيم بإسحاق ، والمنة على موسى وهارون بإيتاء الكتاب ، وحكاية الناس في حال الدعوة ، وهلاك قوم لوط ، وحبس يونس في بطن الحوت ، وبيان فساد عقيدة المشركين في إثبات النسبة{[1]} ودرجات الملائكة في مقام العبادة ، وما منح الله الأنبياء من النصر والتأييد ، وتنزيه حضرة الجلال عن الأنداد والأضداد في قوله سبحانه : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } . [ الصافات : 180 ] .
تميزت سورة الصافات بقصر الآيات ، وسرعة الإيقاع ، وكثرة المشاهد والمواقف ، وتنوع الصور والمؤثرات .
وهي تستهدف – كسائر السور المكية – بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله ، ولكنها بصفة خاصة تعالج صورة معينة من صور الشرك ، التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى ، وتقف أمام هذه الصورة طويلا ، وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى . تلك هي الصورة التي كانت جاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله سبحانه وبين الجن ، وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين الله – سبحانه- والجنة ولدت الملائكة ، ثم تزعم أن الملائكة إناث وأنهن بنات الله !
هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة ، تكشف عن تفاهتها وسخفها ، ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا } .
ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة ، كيلا يقربوا من الملأ الأعلى ، ولا يتسمعوا لما يدور فيه ، ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة .
وبمناسبة ضلال الكافرين وتكذيبهم ، تعرض السورة سلسلة من قصص الرسل : نوح ، وإبراهيم وابنه ، وموسى وهارون ، وإلياس ، ولوط ، ويونس ، تتكشف فيها رحمة الله ونصره لرسله ، وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل ، ويمكننا أن نقسم سورة الصافات إلى ثلاثة موضوعات رئيسية :
1- وصف الملائكة ومشاهد الآخرة :
يستغرق الموضوع الأول من السورة الآيات من ( 1-70 ) ويتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : { والصافات صفا فالزاجرات زجرا* فالتاليات ذكرا } . على وحدانية الله رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب ، ثم تجيء مسألة الشياطين ، وتسمعهم للملأ الأعلى ، ورجمهم بالشهب الثاقبة ، يتلوها سؤال لهم : { أهم أشد خلقا أم من خلقنا . . . } من الملائكة والكواكب والشياطين والشهب ، للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه ، ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب ، وهو مشهد فريد ، حافل بالصورة والحركة ، والمقابلة بينه وبين منازل الأبرار وآلام الفجار .
تتعرض الآيات من ( 71-148 ) لبيان أن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين ، ويستطرد في قصص أولئك المنذرين ، من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ، وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين .
ومن الظواهر المؤثرة في هذا القصص تجرد الأنبياء لربهم ، وإخلاصهم له ، فيونس يسبح بحمد ربه ويناجيه في بطن الحوت ، وإبراهيم يطيع الله ويستسلم لأمره في قصة الذبح والفداء ، ونشاهد من الذابح والذبيح التجرد والامتثال لأمر الله ، في أعمق صورة وأروعها وأرفعها .
وقد كانت الإشارة إلى قصص الأنبياء لمحات سريعة في آيات قصيرة ، تحتوي على عبرة القصة ، والتذكير بمضمونها .
تناولت الآيات من ( 149-182 ) حيث آخر السورة ، الحديث عن الأسطورة الكاذبة ، أسطورة نسبة الجن والملائكة إلى الله ، ثم فندت هذه الأسطورة ، ونزهت الله عنها ، وبينت أن الملائكة خلف من خلق الله ملتزم بطاعته ، { وما منا إلا له ، مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون } . [ الصفات : 164-166 ] .
وقررت الآيات وعد الله لرسله بالظفر والغلبة ، { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون } . [ الصافات : 171-173 ] .
وانتهت السورة بتنزيه الله سبحانه ، والتسليم على رسله ، والاعتراف بربوبيته ، وهي القضايا التي تناولتها الصورة في الصميم .
{ سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين } . [ الصافات : 180-182 ] .
{ والصافات صفا ( 1 ) فالزاجرات زجرا ( 2 ) فالتاليات ذكرا ( 3 ) إن إلهكم لواحد ( 4 ) رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ( 5 ) }
الصافات : جماعة من الملائكة يقفون صفوفا ، لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة .
1 ، 2 ، 3 ، 4 { والصافات صفا* فالزاجرات زجرا* فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } .
أقسم الله تعالى ببعض خلقه تنبيها لأهميته ، ولفتا للأنظار إلى عظمة هذا المخلوق ، كما أقسم سبحانه ببعض مظاهر الكون ، مثل الضحى والرياح ، والشمس والقمر والشفق ، والليل والنهار ، وكلها تلفت أنظارنا إلى عظمة الخالق سبحانه ، وتعالى ، والقسم بالملائكة يلفت أنظارنا إلى هذا الخلق العظيم ، العابد الساجد المسبح المصطف للعبادة ، المكلف بإنزال الوحي من السماء ليتلوه البشر ، أو قيام الملائكة بتلاوة آيات الله وذكره وطاعته ، وقد أخبر القرآن أن الملائكة صفوف منتظمة ، وأنهم عابدون لله حق العبادة .
قال تعالى : { وجاء ربك والملك صفا صفا } . [ الفجر : 22 ] .
وقال سبحانه : { فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون } . [ فصلت : 38 ] .
وقد ذكر المفسرون عدة أراء في المراد بهذه الصفات ، فقيل : أقسم الله بنفوس العلماء المصطفين للعبادة ، الزاجرين الناس عن المعاصي ، التالين لكتاب الله وسنة نبيه ، ذكرا لله وعبادة له .
وقيل : أقسم الله بنفوس الغزاة الصافين في الجهاد ، الزاجرين للخيل أو العدوّ ، التالين لذكر الله لا يشغلهم العدوّ عنه .
والرأي الراجح عند المفسرين أن المراد بهذا القسم : طوائف الملائكة ، فهم يصفون أنفسهم في طاعة الله ، كما يصف المسلمون أنفسهم في الصلاة ، وفي السنّة الصحيحة أن الله ميز هذه الأمة وميّز رسولها ، بصف المسلمين أنفسهم في الصلاة كما تصف الملائكة ، والملائكة لها إلهام ومعونة للمؤمنين تزجرهم عن المعاصي ، وتحثهم على الطاعات ، والملائكة تبلغ وحي الله إلى الأرض ، وتذكر الله تعالى .
قال تعالى : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير } . [ الحج : 75 ] .
وقال سبحانه : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم : [ الشورى : 51 ] .
وقد أرسل الله جبريل بوحي السماء ، وجعله أمينا عليه .
قال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } . [ الشعراء : 193 ، 194 ] .
وقال سبحانه : { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى } . [ النجم : 1-7 ] .
أي أن الله تعالى أقسم بصنوف الملائكة على وحدانيته ، وأنه سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، وجواب القسم هو :
أي : ليس صنما ولا وثنا ولا أي شيء من الآلهة المدَّعاة ، بل هو سبحانه إله واحد منزه عن الشريف والمثيل ، ليس له شريك ولا ندّ ولا نظير .
قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا . . . } [ الأنبياء : 22 ] . وهذه مقدمة جوابها : لكن السماء والأرض لم تفسدا والنتيجة : ليس في الكون آلهة إلا الله سبحانه وتعالى .
قوله تعالى : { والصافات صفا } قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، وقتادة : هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة .
أخبرنا عمر بن عبد العزيز القاشاني ، أنبأنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي ، أخبرنا أبو علي محمد بن العلاء ، أخبرنا أحمد اللؤلؤي ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ، حدثنا زهير قال : سألت سليمان الأعمش عن حديث جابر عن سمرة في الصفوف المقدمة فحدثنا عن المسيب بن رافع بن طرفة عن جابر عن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟ قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال : يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف " وقيل : هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريده . وقيل : هي الطيور ، دليله قوله تعالى : { والطير صافات } .