تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} (8)

1

التفسير :

8-{ أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب } .

كان في مكة جموع من الأغنياء ، وأصحاب الثراء والجاه والسلطان ، وقد استراحوا لهذه المنزلة ، وما يتبعها من خمر ولهو ، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم يتيما فقيرا من بني هاشم ، حسدوا هذا النبي ، وجحدوا رسالته بغيا وحسدا : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] .

أي : هلا كانت الرسالة في أحد أغنياء مكة ، أو أحد أغنياء الطائف .

وقالوا : أما وجد الله غير هذا اليتيم الفقير ليتخذه رسولا ، وقد أشار القرآن إلى أن الله تعالى يخلق ما يشاء ويختار ، وهو يوزع الأرزاق ، والرسالة أسمى رزق ، فاختار الرسول شأن من شئون الله تعالى ، وليس من شأنهم ، قال تعالى : { أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون } . [ الزخرف : 32 ] .

أي : إذا كان الأدنى – وهو المال – قد قسمناه ، فإن الأسمى – وهو الرسالة – أولى ألا يقسِّمه إلا العليّ الأعلى .

والمعنى : { أأنزل عليه الذكر من بيننا . . . }

كيف ينزل عليه الوحي من دوننا ، ونحن أهل الفضل والمنزلة ؟

{ بل هم في شك من ذكري . . . }

هم لم يعتمدوا في إنكار رسالتك على أدلة أو براهين عقلية ، بل قدّموا الشك في الرسول وفي القرآن ، بدليل قولهم : إن محمدا ساحر ، ثم قالوا : كاهن ، ثم قالوا : كذاب ، ثم قالوا : أساطير الأولين جمعها ولفّقها ، وادعى أنها كتاب من عند الله ، ولو تأمّلوا في القرآن تأمل راغب في الوصول إلى الحقّ ، لزال عنهم هذا الشك والمكابرة والعناد .

{ بل ما يذوقوا عذاب } .

أي : إنهم لم يذوقوا عذابي بعد ، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الحسد والشكّ .

والخلاصة : إنهم لا يصدّقون إلا أن يمسهم العذاب ، فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكري

ويقول النحاة : إن كلمة : لما . تؤذن بقرب وقوع ما بعدها .

مثل قول الشاعر :

أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد .

ولذلك ذكر المفسرون هنا أن معنى : { بل لما يذوقوا عذاب } ، أن ذوقهم العذاب محقق وقريب الوقوع إن لم يؤمنوا .

وتذكرنا هذه الآية بأن بعض رجال من كبار المشركين كانوا يتسللون ليلا قرب بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليستمعوا القرآن في الظلام دون أن يراهم أحد ، وفي الصباح عند انصرافهم يتلاومون على ذلك ، ومنهم : أبو سفيان ، وأبو جهل ، والأخنس بن شريق ذهب إلى أبي جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ماذا سمعت ؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنّا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، فقام عنه الأخنس وتركه ، فهو الحسد الذي حمل أبا جهل على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومقاومة دعوته ، وهو السرّ في قول من قال : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{أَءُنزِلَ عَلَيۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَيۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِي شَكّٖ مِّن ذِكۡرِيۚ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} (8)

ولما كان مرادهم بهذه التأكيدات الدلالة على أنهم في غاية الثبات على ما كانوا عليه قبل دعائه ، وأبى الله أن يبقى باطلاً بغير إمارة يقرنه بها تفضحه ، وسلطان يبطله ويهتكه ، أتبع ذلك حكاية قولهم الذي جعلوه دليلاً على حرمهم ، فكان دالاً على عدم صدقهم في هذا الحكم الجازم غاية الجزم بالاختلاق المنادى عليهم بأن أصل دائهم والحامل لهم على تكذيبهم إنما هو الحسد ، فقال دالاً بتعبيرهم بالإنزال على أنه صلى الله عليه وسلم كان جديراً بأن يتوهم فيه النبوة بما كان له قبل الوحي من التعبد والأحوال الشريفة وقدموا ما يدل على اختصاصه عناداً لما يعلمون من أحواله المقتضية للخصوصية بخلاف ما يذكر في القمر ، وعبروا بحرف الاستعلاء إشارة إلى أن مثل هذا الذي يذكره لا يقوله إلا من غلب على عقله فقالوا : { أءنزل عليه } أي خاصة { الذكر } أي الذي خالف ما نحن عليه وصار يذكر به ، وزادوا ما دلوا به على الاختصاص تصريحاً فقالوا : { من بيننا } ونحن أكبر سناً وأكثر شيئاً ، وهذا كله كما ترى مع مناداته عليهم بالحسد العظيم ينادي عليهم غاية المناداة بالفضيحة ، لأنه إن كان المدار على رعاية حق الآباء حتى لا يسوغ لأحد تغيير دينهم والطعن عليهم بدين محدث وإن قامت عليه الأدلة وتعاضدت على حقيته البراهين فما لآبائهم غيروا دين آبائهم لأجل ما أحدثه عمرو بن لحي - شخص ليس من قبيلتهم ، وشهدوا على آبائهم بالضلال وهم عالمون بأن ما غيروه دين إسماعيل ومن قبله إبراهيم ومن تبعهما من صالحي أولادهما عليهم السلام ، وإن كان المدار على المحدث حتى ساغ تغيير دين الأنبياء ومن تبعهم بإحسان عليهم السلام بما أحدثه عمرو بن لحي فما لهم لا يغيرون ما ابتدع من الضلال بما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم وسموه محدثاً ، وإن كان المدار على الحق فما لهم لا ينظرون الأدلة ويتبعون الحجج .

ولما كان هذا دالاًّ على أنهم ليسوا على ثقة مما جزموا به قال : { بل } أي إنهم ليسوا جازمين بما قالوا وإن أكدوه غاية التأكيد ، بل { هم في شك } أي تردد محيط بهم مبتدئ لهم { من ذكري } أي فلهذا لا يثبتون فيه على قول واحد ، أي إن أحوالهم في أقوالهم وأفعالهم أحوال الشاك . وعدل عن مظهر العظمة إلى الإفراد لأن هذا السياق للتوحيد فإلافراد أولى به وليكون نصاً على المراد بعد ذكر آلهتهم قطعاً لشبه متعنتيهم .

ولما كانوا في الحقيقة على ثقة من حقيقته وإن كان قولهم وفعلهم قول الشاك قال : { بل } أي ليسوا في شك منه في نفس الأمر وإن كان قولهم قول من هو في شك . ولما كانوا قد جرت لهم مصايب ومحن ، وشدائد وفتن ، ربما : ظنوا أنه لا يكون شيء من العذاب فوقها ، نفى أن يكونوا ذاقوا شيئاً من عذابه الذي يرسله عند إرادة الانتقام ، فعبر بما يفيد استغراق النفي في جميع الزمن الماضي فقال : { لما يذوقوا } من أول أمرهم إلى الآن { عذاب * } أي الذي أعددته للمكذبين فهم في عزة وشقاق ، ولو ذاقوه لانحلت عرى عزائمهم ، وصاروا أذل شيء وأحقره أدناه وأصغره ! وإطباق أهل الرسم وأكثر القراء على حذف يائه رسماً وقراءة إشارة إلى أنه العذاب الأدنى المذهب لحمية الجاهلية ، وإثبات يعقوب وحده لها في الحالين إشارة إلى أنه العذاب المعد لإهلاك الأمم الطاغية لا مطلق العذاب .