{ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون( 12 ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذالكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ( 13 )إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير( 14 ) }
سائغ : سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس .
ملح أجاج : مالح شديد الملوحة يحرق بملوحته .
{ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
هذا لون جديد من ألوان النعم التي أنعم الله بها على عباده فالماء العذب الفرات يشربه الإنسان فيروى ظمأه ويقطع عطشه ويسعد نفسه ويمده بالطاقة والعافية وماء البحار ملح أي : مالح شديد الملوحة ، لاذع لا يستساغ تناوله فالأول نافع في الري وإطفاء العطش والآخر غير نافع في ذلك فإن ماء البحار المالح يزيد العطشان عطشا .
قال بعض المفسرين : لعل في ذلك إشارة على أن المؤمن لا يستوي مع الكافر كما لا يستوي الماء العذب بالماء المالح ومع التباين في بعض الأمور ومنها الشرب فإن البحر والنهر يشتركان في استخراج السمك من كل منهما واستخراج الحلية أيضا مثل اللؤلؤ والمرجان .
وقد اثبت العلم وجود الحلية في الماء العذب كما أثبته الواقع ففي المياه العذبة بانجلترا واسكتلندا وويلز وتشيكوسلوفاكيا واليابان وغيرها ، توجد أنواع من أصداف اللؤلؤ من الماس والياقوت كما جاء في التفسير المنتخب للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر .
وفي هذا دليل على أن الحلية تستخرج من البحر ومن النهر كما قال تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . ( الرحمن : 22 ) .
ثم يلفت القرآن النظر على السفن التي تمخر عباب البحر وتنقل التجارة والثمار والملبوسات والمصنوعات وغيرها من بلد على آخر فقال :
{ وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . . . } وترى الفلك على اختلاف أحجامها تشق الماء وهي تجري بكم فيه لتطلبوا من فضل الله ورزقه منتقلين فيها من بلد على بلد ومن قطر إلى قطر ولعلكم بهذا تعرفون فضل الله عليكم وعظيم نعمائه فتحمدونه وتشكرونه وتطيعوه .
وأذكر بهذه المناسبة منظر قناة السويس والسفن فيها متعددة الأحجام والأشكال والألوان تنتقل وراء بعضها تابعة للعديد من الجنسيات تنقل البضائع والسلاح والتقنية وسائر الأشياء وتتزود في الطريق بالوقود وتشتري وتبيع ويستفيد الجميع من هذه الحركة ولعلهم يشكرون الله العلي الكبير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما يستوي البحران} يعني الماء العذاب والماء المالح.
{هذا عذب فرات} يعني طيب {سائغ شرابه} يسيغه الشارب {وهذا ملح أجاج} مر لا ينبت.
{ومن كل} من الماء المالح والعذب {تأكلون لحما طريا} السمك {وتستخرجون حلية} يعني اللؤلؤ.
{تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر} يعني بالمواخر أن سفينتين تجريان إحداهما مقبلة والأخرى مدبرة بريح واحدة، تستقبل إحداهما الأخرى.
{لتبتغوا} في البحر {من فضله} من رزقه {ولعلكم تشكرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما يعتدل البحران فيستويان، أحدهما عَذْب فُرات والفرات: هو أعذب العذب، "وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ "يقول: والآخر منهما ملح أجاج، وذلك هو ماء البحر الأخضر، والأُجاج: المرّ، وهو أشدّ المياه مُلوحة... وقوله: "وَمِنْ كُل تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا" يقول: ومن كلّ البحار تأكلون لحما طَرِيا، وذلك السمك من عذبهما الفرات، وملحهما الأجاج.
"وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها" يعني: الدرّ والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج. وقد بيّنا قبل وجه تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً، وإنما يستخرج من الملح فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
"وَتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ" يقول تعالى ذكره: وترى السفن في كل تلك البحار مواخر، تمخُر الماء بصدورها، وذلك خرقها إياه إذا مرّت، واحدتها ماخرة. يقال منه: مَخَرت تمخُر، وتمخَر مَخْرا، وذلك إذا شقّت الماء بصدورها...
وقوله: "لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم، ولتتصرّفوا فيها في تجاراتكم، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم، وما رزقكم منه من طيبات الرزق، وفاخر الحليّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما يستوي البحران هذا عذب فُرات سائغٌ شرابه وهذا مِلح أُجاج} فيه وجوه من المعتبر:
أحدها: يذكر ألا يستوي في الحكمة الخبيث من الرجال والطيّب منهم كما لا يستوي المالح من الماء والأجاج والعذب منه والسائغ، وقد استوى الطيّب من الرجال والخبيث في منافع الدنيا ومأكلاتها، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز، دل أن هنالك دارا تميّز بينهما وتفرّق.
والثاني: يخبر عن غناه عما أنشأ من الأشياء ليُعلِم أنه لم يُنشئها لحوائج نفسه، ولكن لما ذكرنا...
والثالث: فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر، ودفع الإياس من توحيده، وقطع الرجاء عن عوده إلى الكفر حين أخبر عما يأكلون من الماء المالح الأجاج والعذب السائغ جميعا اللحم الطّري، ما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطّري أن يفسُد من ساعته.
ويذكّرهم أيضا عن قدرته: أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدُّنو منه والقرب من الخوض فيه والذوق منه فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
والرابع: يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حين قال: {ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حِلية تلبسونها} يذكر عظم نعمه وقدرته حين جعل البحار مسخّرة مذلّلة، يقدرون على استخراج ما فيها من الحلى والجواهر والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار وقطعها بسفن أنشأها لهم، وأجراها في الماء؛ بل الأعجوبة في إجراء السُّفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء، لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاء، دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء...
{لتبتغوا من فضله} هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل الله، إذ قد يكتسب المرء ولا يكون له منه سبب.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الفرات: الذي يكسر العطش، والسائغ: المريء السهل الانحدار لعذوبته ...
يحتمل غير طريقة الاستطراد: وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ: وجرى الفلك فيه، والكافر خلو من النفع، فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِي كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} [البقرة: 74]...
الأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدرة الله؛ وذلك من حيث إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج، ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة، فإن اللحم الطري يوجد فيهما، والحلية تؤخذ منهما، ومن يوجد في المتشابهين اختلافا ومن المختلفين اشتباها، لا يكون إلا قادرا مختارا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفيه اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار، ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء، حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها، والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما؛ فقال: {وما يستوي البحران} ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو: {هذا عذب}.
ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال: {وتستخرجون حلية تلبسونها}...فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب.
ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: {وترى الفلك} أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: {فيه} أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: {مواخر} قال البخاري في باب التجارة في البحر: وقال مجاهد: تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس: مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً: جرت أو استقبلت الريح في جريتها.
ثم علق بالمخر معللاً قوله: {لتبتغوا} أي تطلبوا طلباً شديداً.
ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال: {من فضله}
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا إخبار عن قدرته وحكمته ورحمته، أنه جعل البحرين لمصالح العالم الأرضي كلهم، وأنه لم يسوِّ بينهما، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الأنهار عذبة فراتا، سائغا شرابها، لينتفع بها الشاربون والغارسون والزارعون، وأن يكون البحر ملحا أجاجا، لئلا يفسد الهواء المحيط بالأرض بروائح ما يموت في البحر من الحيوانات ولأنه ساكن لا يجري، فملوحته تمنعه من التغير، ولتكون حيواناته أحسن وألذ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي السياق إلى لفتة أخرى في هذه الجولة الكونية المتعددة اللفتات. يمضي إلى مشهد الماء في هذه الأرض من زاوية معينة. زاوية تنويع الماء. فهذا عذب سائغ، وهذا ملح مر. وكلاهما يفترقان ويلتقيان -بتسخيرالله- في خدمة الإنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال بالأحوال في الأجواء بين السماء والأرض على تفرد الله تعالى بالإِلهية إلى الاستدلال بما على الأرض من بحار وأنهار وما في صفاتها من دلالة زائدة على دلالة وجود أعيانها، على عظيم مخلوقات الله تعالى.
البحر في كلام العرب: اسم للماء الكثير القار في سعة.
والعذب: الحلو حلاوة مقبولة في الذوق.
والملح بكسر الميم وسكون اللام: الشيء الموصوف بالملوحة بذاته لا بإلقاء ملح فيه... {سائغ شرابه} أن شربه لا يكلف النفس كراهة، وهو مشتق من الإِساغة وهي استطاعة ابتلاع المشروب دون غصة ولا كره.
الحق سبحانه وتعالى يريد أنْ يُقرِّب لنا القضية العقلية القيمية فيعرضها لنا في صورة حسية مُشاهدة {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} وكأن الله يقول لنا: كما أن هناك أشياء حسية لا تستوي في الحسِّ، كذلك في القيم أشياء لا تستوي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...3 ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية، ووسائل الزينة، ومسألة الحمل والنقل...
يستخرج من البحار وسائل الزينة المختلفة من أمثال
(اللؤلؤ والمرجان والصدف والدرّ) وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.
وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم أسس التمدّن الإنساني والحياة الاجتماعية، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات بهذا الخصوص إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الأخرى.
بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالأمور التي ذكرت أعلاه، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة، فهناك مسألة تكون الغيوم الأدوية النفط، الألبسة، الأسمدة للأراضي البور، التأثير في إيجاد الرياح.. إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى.
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم : التراب المختلف الأصناف ، ذكر الأصل الآخر : الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب ، ذاكراً اختلاف صنفيه اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة ، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال : { وما يستوي البحران } ولما كانت الألف واللام للعهد ، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو : { هذا عذب } أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع { فرات } أي بالغ العذوبة { سائغ شرابه } أي هنيء مريء هو بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع { وهذا ملح أجاج } أي جمع إلى الملوحة المرارة ، فلا يسوغ شرابه ، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار ، والمراد أنه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها ، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر ، بل إذا حفر على جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها .
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه ، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال : { ومن كل } أي من الملح والعذب { تأكلون } من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك { لحماً طرياً } أي شهي المطعم ، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زاد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم . ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين ، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال : { وتستخرجون } أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج ، قال البغوي : وقيل : نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك .
( حلية تلبسونها } أي نساؤكم من الجواهر : الدر والمرجان وغيرهما ، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار .
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب ، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً ، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر ، خص بالخطاب فقال : { وترى الفلك } أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء ، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال : { فيه } أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها .
ولما تم الكلام ، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال : { مواخر } أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة ؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر : وقال مجاهد : تمخر السفن الريح ، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام ؛ وقال صاحب القاموس : مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً : جرت أو استقبلت الريح في جريتها ، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة ، وفي الحديث : إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح ، وفي لفظ : استمخروا الريح ، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره ، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار - انتهى كلام القاموس . ثم علق بالمخر معللاً قوله : { لتبتغوا } أي تطلبوا طلباً شديداً . ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها ، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال : { من فضله } أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا { ولعلكم تشكرون * } أي ولتكون حالكم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره .