تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

صفة نعيم الجنة وعذاب النار

{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 ) }

المفردات :

مثل الجنة : الوصف العجيب للجنة وصفتها .

آسن : متغير الطعم والرائحة لطول مكثه .

لم يتغير طعمه : لم تصر فيه حموضة كألبان الدنيا .

لذة : تأنيث لذ ، وهو اللذيذ .

مصفى : خال من الشمع ومن جميع العلائق والمخلفات .

حميما : حارا بالغ الحرارة .

الأمعاء : جمع معي ، وهو ما ينتهي إليه الطعام في البطن .

التفسير :

15- { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } .

تمهيد :

يصف القرآن نعيم المتقين ، فيذكر أحيانا نعيم الجنة الحسي ، وأحيانا ما هو أعلى وأسمى ، وهو رضوان الله ومودته ومعيته سبحانه ، مثل : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان ودا } . ( مريم : 96 ) .

والله تعالى عليم بعباده ومشاربهم وأذواقهم وطوائفهم .

وهنا يفصل القرآن نعيم الجنة ، ويشوق المتقين إلى ما فيها ، وكل ما فيها طيب طاهر نظيف ، طازج مشرق : { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } . ( الزخرف : 71 ) .

ومعنى الآية :

صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين ، الذين راقبوا الله وأطاعوه ، فاستحقوا أن ينالوا جزاءه في الآخرة ، في هذه الجنة ما يأتي :

1- أنهار من ماء طازج لم يداخله كدر ، ولم يتغير لونه أو طعمه .

2- أنهار من لبن سليم طازج لم يتغير طعمه بحموضة أو رائحة كريهة كألبان الدنيا .

3- أنهار من خمر لذيذة الطعم ، ليس فيها كراهية ريح ، ولا غائلة سكر ، ولا يجد شاربها إلا اللذة والمتعة .

4- أنهار من عسل مصفى ، قد صفي من القذى ، وما يكون في عسل الدنيا قبل التصفية ، من الشمع وفضلات النحل وغيرها .

5- { ولهم فيها من كل الثمرات . . . } وأنواع الفاكهة اليانعة ذات الألوان البديعة ، والروائح الذكية ، والطعوم الشهية .

كقوله تعالى : { يدعون فيها بكل فاكهة آمنين } . ( الدخان : 55 ) .

وقال سبحانه : { فيهما من كل فاكهة زوجان } . ( الرحمان : 52 ) .

6- { ومغفرة من ربهم . . . } أي : وقد غفر الله ذنوبهم ، وسترها عليهم ، وأمنهم يوم الفزع الأكبر ، وتجاوز عن السيئات ، وكافأهم على الحسنات بفضله ورحمته .

وبذلك جمع لأهل الجنة بين النعيم الحسي والنعيم المعنوي فيما يأتي :

1- الماء : وبدأ به لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا .

2- اللبن : وهو يجري مجرى الطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم ، فهو حاجة من حاجات الجسم .

3- الخمر : وهي لذة ونعيم لمن استوفى الضروريات والحاجيات ، واحتاج إلى اللذائذ والكماليات .

4- العسل : وفيه الشفاء والحلاوة .

5- المغفرة والستر والرحمة ، والتجاوز والحنان والفضل من الله .

ثم قارن بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ، فقال :

{ كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم } .

أي : أيستوي النعيم الحسي والمعنوي لأصحاب الجنة بعذاب أهل النار ، وخلودهم في الجحيم خلودا أبديا سرمديا ، ثم يكلفون بشرب ماء الحميم الذي يغلي غليانا شديدا ، ويشوي وجوههم وفروة رؤوسهم ، وفيه مع حرارته ما يقطع الأمعاء ويذيبها لتنزل من أدبارهم .

اللهم إنا نعوذ بك من عذاب أهل النار ، اللهم أجرنا من النار ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار ، بفضلك وكرمك يا عزيز يا غفار ، اللهم آمين .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

مثل الجنة : صفتها .

آسِن : متغير الطعم والريح ، والفعل : أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر ، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم .

لذة للشاربين : لذيذ للشاربين .

مصفى : قد أخذ منه الشّمع .

حميماً : شديد الحرارة .

صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين أنها : فيها أنهار من ماء عذب لم يتغير طعمه ، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم ، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه ، وأنهار من خمر لذيذة للشاربين ، وأنهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر . وفيها من جميع أنواع الثمرات . وفوق كل هذه النعم يأتي رضي الله عنهم { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } .

فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار ، { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } ؟ ؟ .

قراءات :

قرأ ابن كثير : أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين . والباقون : آسن : بمد الهمزة .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

قوله تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون } أي : صفتها ، { فيها أنهار من ماء غير آسن } آجن متغير منتن ، قرأ ابن كثير { أسن } بالقصر ، والآخرون بالمد ، وهما لغتان يقال : أسن الماء يأسن أسناً ، وآحن وأسن يأسن ، وأجن يأجن ، أسوناً وأجوناً ، إذا تغير ، { وأنهار من خمر لذة } لذيذة . { للشاربين } لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي ، { وأنهار من عسل مصفىً } أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغافر بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، أنبأنا أبو أسامة وعبد الله بن نمير وعلي بن مسهر ، عن عبد الله بن عمر ، عن حبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة } . قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سيحان نهر عسلهم ، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . { ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار } أي : من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار ، { وسقوا ماءً حميماً } شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا دنا منهم يشوي وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم { ف } إذا شربوه ، { فقطع أمعاءهم } فخرجت من أدبارهم ، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ فِيهَآ أَنۡهَٰرٞ مِّن مَّآءٍ غَيۡرِ ءَاسِنٖ وَأَنۡهَٰرٞ مِّن لَّبَنٖ لَّمۡ يَتَغَيَّرۡ طَعۡمُهُۥ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ خَمۡرٖ لَّذَّةٖ لِّلشَّـٰرِبِينَ وَأَنۡهَٰرٞ مِّنۡ عَسَلٖ مُّصَفّٗىۖ وَلَهُمۡ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَمَغۡفِرَةٞ مِّن رَّبِّهِمۡۖ كَمَنۡ هُوَ خَٰلِدٞ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيمٗا فَقَطَّعَ أَمۡعَآءَهُمۡ} (15)

ولما تكرر ذكر الجنة والنار في هذه السورة إلى أن ختم بهذه الآية التي قسم الناس فيها إلى أولياء مهتدين وأعداء ضالين معتدين ، فهدى سياقها إلى أن التقدير : أفمن كان على بينة {[59500]}من ربه{[59501]} أحياه الحياة الطيبة في الدارين ، ومن تبع هواه أرداه{[59502]} فيهما ، أتبعه وصف الجنة التي هي دار أوليائه قادهم إليها الهدى ، والنار التي هي دار أعدائه ساقهم إليها الضلال المحتم للردى ، فقال : { مثل الجنة } أي البساتين العظيمة التي تستر{[59503]} داخلها من كثرة أشجارها{[59504]} .

ولما تكرر وعده سبحانه{[59505]} للذين آمنوا بالجنة بالاسم الأعظم الجامع وبعضها بالضمير العائد إليه ، صار الوعد بها في غاية التحقق فعبر عنه هنا بالماضي المبني للمفعول إشارة إلى أنه أمر قد تحقق بأسهل أمر ، وفرغ منه إلى أن صار حاضراً لا مانع منه إلا الوصف الذي علق به الوعد ووصفها بصفات تفيد القطع بأنه لا يقدر عليها إلا الله فصار مجرد ذكرها والإخبار به عنها بصيغة المجهول أعلى لأمره فقال : { التي وعد المتقون } أي الذين حملتهم تقواهم بعد الوقوف عن كل فعل لم يدل عليه دليل على أن استمعوا منك فانتفعوا بما دللتهم عليه من أمور الدين حتى انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام : مقبل عليه بكليته فهو متبع ، ومعرض عنه جملة ، ومستمع غير منتفع .

ولما كان التقدير : مثل بستان عظيم لا يسقط ورقه ولا ينقطع ثمره ولا يتفطن نعيمه لما فيه من الأنهار المتنوعة ، وكان ما هو بهذه الصفة إنما هو موهوم لنا لا معلوم ، طواه وذكر ما دل عليه من صفة الجنة الموعودة المعلومة بوعد الصادق الذي ثبت صدقه بالمعجزات فقال استئنافاً : { فيها } أي{[59506]} الجنة الموعودة . ولما كان ما يعهدونه من الجنان لا يحتمل أكثر من ثلاثة أنهار ، عبر بالجمع الذي يستعار للكثرة إذا دلت قرينة ، وهي هنا المدح والامتنان ، فقال : { أنهار من ماء } ولما كان ماء الدنيا مختلف الطعوم {[59507]}على ثلاثة : حلو وعذب وملح{[59508]} ، مع اتحاد الأرض ببساطتها وشدة اتصالها للدلالة على أن-{[59509]} فاعل ذلك قادر-{[59510]} مختار{[59511]} ، وقد يكون آسناً أي متغيراً عن الماء الذي يشرب بريح منتنة من أصل خلقه{[59512]} أو من عارض عرض له من منبعه أو مجراه قال : { غير آسن } أي ثابت له في وقت ما شيء{[59513]} من الطعم أو الريح أو اللون بوجه من الوجوه وإن طالت إقامته وإن أضيف إليه غيره فإنه لا يقبل التغير بوجه .

ولما كان أكثر شرابهم بعد الماء اللبن ، ثنى به فقال سبحانه : { وأنهار من لبن } ولما كان التغير غير محمود ، وكانوا يعهدون في الدنيا أن اللبن كله على جميع أنواعه{[59514]} طيب حال نزوله من الضرع مع اختلاف ذوات الدر في الأشكال والأنواع والمقادير والأمزجة ، ومع انفصال كل واحدة منها من الأخرى ، وأنه إنما يتغير{[59515]} بعد حلبه ، عبر بما ينفي التغير في الماضي فقال : { لم يتغير طعمه } أي بنفسه عن أصل خلقته{[59516]} وإن أقام مدى الدهر ، وهذا يفهم أنهم{[59517]} لو أرادوا تغييره{[59518]} لشهوة اشتهوها تغير ، وأنه مع طيبه على أنواع كثيرة كما كان في الدنيا متنوعاً .

ولما كان أكثر ما بعد اللبن الخمر قال : { وأنهار من خمر } ولما كانت الخمر يكثر طعمها ، وإنما يشربها شاربوها لأثرها ، وأنه متى تغير طعمها زال اسمها ، عرف أن كل ما في خمر الجنة في غاية الحسن غير متعرض لطعم فقال : { لذة } أي ثابتة لها اللذة ودائمة حال شربها وبعده { للشاربين * } في طيب الطعم وحسن العاقبة{[59519]} .

ولما كان العسل أعزها وأقلها ، أخره وإن كان أجلها فقال : { وأنهار من عسل } ولما كان عسل الدنيا لا يوجد إلا مخلوطاً بالشمع وغيره من القذى قال : { مصفى } أي هو-{[59520]} صاف صفاء ما اجتهد في تصفيته من ذلك ، وهذا الوصف ثابت له دائماً لا انفكاك له عنه في وقت ما ، فقد حصل بهذا غاية التشويق{[59521]} إلى الجنة بالتمثيل بما يستلذ به من أشربة الدنيا لأنه غاية ما نعلم من ذلك مجرداً عما ينقصه أو ينغصه مع الوصف بالغزارة والاستمرار قال البغوي{[59522]} : قال كعب الأحبار : نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ، ونهر الفرات نهر لبنهم ، ونهر مصر نهر خمرهم ، ونهر سبحان نهر عسلهم . وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر . وقال ابن عبد لحكم في فتوح مصر{[59523]} : حدثنا عثمان بن صالح ثنا-{[59524]} ابن لهيعة عن يزيد بن أبي-{[59525]} حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما سأل كعب الأحبار رضي الله عنه : هل تجد لهذا النيل في كتاب الله تعالى خبراً ؟ قال : أي والذي فلق البحر لموسى ، إني لأجده في كتاب الله أن الله عز وجل يوحي إليه في كل عام مرتين ، يوحي إليه عند جريه أن الله يأمرك أن تجري ، فيجري ما كتب الله له ثم يوحي إليه بعد ذلك : يا نيل غر{[59526]} حميداً . حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن{[59527]} يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن كعب الأحبار أنه كان يقول : أربعة أنهار من الجنة وضعها الله عز وجل في الدنيا . فالنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة . وسيحان نهر الماء في الجنة . وجيحان نهر اللبن في الجنة . حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن أبي جنادة الكناني أنه سمع كعباً يقول : النيل في الآخرة عسلاً{[59528]} أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، ودجلة في الآخرة لبناً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل ، والفرات خمراً أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله عز وجل-{[59529]} ، وجيحان ماء أغزر ما يكون من الأنهار التي سمى الله وأصل هذا كله ما في الصحيح في{[59530]} صفة الجنة{[59531]} عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة " وقال أبو حيان{[59532]} في حكمة ترتيبها غير ما تقدم : إنه بدئ بالماء الذي لا يستغنى عنه{[59533]} في المشروبات ، ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعومات في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يتلذذ به ، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المطعوم والمشروب - انتهى . وأحسن منه أنه لما كان السياق للتعجب في ضرب المثل لأنه قول لا ينفك عن غرابة بدأ بأنهار الماء لغرابتها في بلادهم وشدة حاجتهم إليها ، ولما كان خلوها عن تغير{[59534]} أغرب نفاه ، ولما كان اللبن أقل فكان جريه أنهاراً أغرب ، ثنى-{[59535]} به ، ولما كان الخمر أعز ثلث به ، ولما كان العسل أشرفها وأقلها ختم به ، ونبه - مع هذا التذكير بقدرته تعالى - على ما يريد بسبب وبغير سبب فإن هذه المشروبات الثلاثة التي بعضهم متمحض للشرابية كالخمر وبعضها فيه غذائية{[59536]} وهي فيه أغلب ، وهو العسل ، وبعضها ينزع إلى كل منهما وهو اللبن كلها من الماء مع تمايزها مذاقاً وأثراً في الغذاء والدواء وغير ذلك ، فإن الماء أصل النبات ، ومن النبات يكون اللبن{[59537]} والخمر والعسل بما لا يخفى من الأسباب ، وأما الآخرة فغنية عن{[59538]} الأسباب لظهور اسمه الظاهر سبحانه هناك لأنه لا ابتلاء{[59539]} فيها ، وبهذا فهم للترتيب سر آخر وهو أنه-{[59540]} تعالى قدم الماء لأنه الأصل لها ، وتلاه بأقرب الأشياء إليه في الشرابية والطبع : اللبن{[59541]} ، ثم-{[59542]} بما هو أقرب إلى اللبن من جهة أنه شراب فقط ، ثم بالعسل لأنه أبعدها منه .

ولما كانت الثمار ألذ مستطاب بعد {[59543]}سائغ الشراب{[59544]} قال تعالى : { ولهم فيها } ولما كان{[59545]} أهلها متفاوتين{[59546]} في الدرجات فلا تجمع جنان أغلبهم جميع ما في الجنة من الثمار بعض فقال : { من كل الثمرات } أي جميع أصنافها على وجه لا حاجة معه من قلة ولا انقطاع .

ولما كان العيش لا يطيب مع الإنصاف بما يوجب العتب ، قال مشيراً إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره ، لأن الرتب متضائلة عن رتبته سبحانه : { ومغفرة من ربهم } أي المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وأثارها بحيث لا يخشون{[59547]} لها عاقبة بعقاب . لا عتاب وعدم بلوغهم إلى ما يحق له من الشكر سبحانه .

ولما أرشد هذا السياق إلى أن التقدير : أفمن هو في هذا النعيم الأكبر المقيم ، بنى عليه قوله : { كمن هو خالد{[59548]} } أي مقيم إقامة لا انقطاع معها ، ووحده لأن الخلود يعم من فيها على حد سواء { في النار } أي التي لا يطفأ لهيبها ، ولا يفك أسيرها ولا يؤنس غريبها . ولما كان كل واحد من داخليها له سقي يخصه على حسب عمله ولا يظلم ربك أحداً . كان المؤثر لضرهم السقي على الكيفية التي تذكر لا كونه{[59549]} من ساق معين ، بني للمجهول قوله مسنداً إلى ضمير الجمع قوله تعالى : { وسقوا } أي عوض ما ذكر من شراب أهل الجنة { ماء حميماً } أي في غاية الحرارة { فقطع أمعاءهم * }{[59550]} ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ، وذلك أنه تعالى لما قدم أن المؤمنين في جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأن الكافرين مأواهم النار ، وكان التقدير إنكاره على من لم يرتدع للزواجر تنبيهاً على أن عمله عمل من يسوي بين الجنة والنار لأن كون النار جزاء لمثله والجنة جزاء المؤمن صار{[59551]} في حد لا يسوغ إنكاره : أمثل الجنة الموصوفة كمثل النار ، ومن {[59552]}هو خالد{[59553]} في الجنة كمن هو خالد في النار - والله الموفق للصواب{[59554]} .


[59500]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[59501]:سقط ما بين الرقمين من ظ و م ومد.
[59502]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: أراه.
[59503]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: تسر.
[59504]:زيد في الأصل: وأثمارها وأنهارها وما أعد لأهلها فيها من الحور العين والولدان وغير ذلك، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[59505]:ومن هنا انقطعت نسخة م إلى ما سننبه عليه.
[59506]:زيد في ظ: في.
[59507]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[59508]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[59509]:زيد من مد.
[59510]:زيد من مد.
[59511]:من ظ ومد، وفي الأصل: مختارا.
[59512]:من مد، وفي الأصل و ظ: الخلقة.
[59513]:من ظ ومد، وفي الأصل: سيء-كذا.
[59514]:من مد، وفي الأصل و ظ: أحواله.
[59515]:من مد، وفي الأصل و ظ: تغير.
[59516]:من مد، وفي الأصل و ظ: خلقه.
[59517]:من مد، وفي الأصل و ظ: أنه.
[59518]:من مد، وفي الأصل و ظ: تغيره.
[59519]:من مد، وفي الأصل و ظ: العافية.
[59520]:زيد من مد.
[59521]:من مد، وفي الأصل و ظ: الشوق.
[59522]:راجع معالم التنزيل بهامش اللباب6/148.
[59523]:من مد وكتاب الفتوح 149، وفي الأصل و ظ: عن.
[59524]:زيد من مد.
[59525]:زيد من مد.
[59526]:من مد وكتاب الفتوح 149، وفي الأصل و ظ: عن.
[59527]:من مد والفتوح، وفي الأصل و ظ: أبي.
[59528]:من مد وهامش الفتوح، وفي الأصل و ظ والفتوح: عسل.
[59529]:زيد من مد والفتوح.
[59530]:من مد، وفي الأصل و ظ: من.
[59531]:راجع المعالم بهامش اللباب6/148.
[59532]:في البحر المحيط 8/79.
[59533]:من البحر، وفي الأصل: من، وليس في ظ ومد.
[59534]:من مد، وفي الأصل و ظ: نصر-كذا.
[59535]:زيد من مد.
[59536]:من ظ ومد، وفي الأصل: غذائه.
[59537]:وقع في الأصل و ظ: بعد "والعسل" والترتيب من مد.
[59538]:زيد في الأصل: هذه، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[59539]:زيد من مد.
[59540]:من ظ ومد، وفي الأصل: بتدا.
[59541]:من مد، وفي الأصل و ظ: باللبن.
[59542]:زيد من ظ ومد.
[59543]:من ظ ومد، وفي الأصل: ساير الأشربة.
[59544]:من ظ ومد، وفي الأصل: ساير الأشربة.
[59545]:من ظ ومد، وفي الأصل: كانت.
[59546]:من ظ ومد، وفي الأصل: مفترقين.
[59547]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا بحون-كذا.
[59548]:زيد في الأصل و ظ: في النار، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[59549]:من ظ ومد، وفي الأصل: كون.
[59550]:زيد في الأصل:أي، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[59551]:في الأصل بياض ملأناه من ظ ومد.
[59552]:من ظ ومد، وفي الأصل: كان خالدا.
[59553]:من ظ ومد، وفي الأصل: كان خالدا.
[59554]:سقط من ظ ومد.