تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة غافر

سورة غافر سورة مكية ، نزلت في الفقرة الأخيرة من حياة المسلمين بمكة ، بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، ولآياتها 85 آية ، نزلت بعد صورة الزمر .

ولها أربعة أسماء : تسمى سورة غافر لقوله تعالى في أولها : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب . . . } ( غافر : 3 )

وتسمى سورة المؤمن لاشتمالها على حديث مؤمن آل فرعون- واسمه خربيل – في قوله تعالى : { وقال رجل مؤمن من آل فرعون . . . } ( غافر : 28 ) .

وسورة الطول لقوله تعالى : { ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } . ( غافر : 3 ) .

وتسمى حم الأولى لأنها أول سورة في الحواميم {[1]} .

روح السورة

الروح السارية في سورة غافر هي روح الصراع الدائر بين الحق والباطل ، والإيمان والكفر ، والدعوة والتكذيب ، وأخيرا قضية العلو في الأرض ، والتجبر بغير الحق ، وبأس الله الذي يأخذ المتجبرين ، وفي ثنايا أهداف السورة الأصلية نجد أنها تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ، ونصر الله إياهم ، واستغفار الملائكة لهم واستجابة لله لدعائهم ، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم .

وجو السورة كله – من ثم – كأنه جو معركة ، وهي المعركة بين الإيمان والطغيان ، وبين الهدى والضلال ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض ، وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل ، وتتنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين .

وتتمثل روح السورة في عرض مصارع الغابرين ، كما تتمثل في عرض مشاهد القيامة ، وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر ، وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة ، ومنذ بداية السورة إلى نهايتها نجد آيات تلمس القلب ، وتهز الوجدان ، وتعصف بكيان المكذبين ، وقد ترق آيات السورة فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس القلب برفق ، وهي تعرض صفات الله غافر الذنب وقابل التوب ، ثم تصف حملة العرش ، وهم يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين ، ثم تعرض الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية .

موضوعات السورة

يمكننا أن نقسم سورة غافر بحسب موضوعاتها إلى أربعة فصول :

الفصل الأول : صفات الله .

تبدأ الآيات من ( 4-20 ) بعرض افتتاحية السورة ، وبيان أن الكتاب منزل من عند الله ، { غافر الذنب وقابل التوب . . . } للمؤمنين التائبين ، { شديد العقاب . . . } للعصاة المذنبين .

ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله ، وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال ، ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مهما تقلبوا في الخير والمتاع ، فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم ، وقد أخذهم الله أخذا بعقاب يستحق العجب والإعجاب ، ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك . . . ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم ، ويتوجهون إليه بالعبادة ، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض ، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح . . وفي الوقت ذاته مشهد الكافرين وهم ينادون : { لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } . ( غافر : 10 ) .

وهم في موقف المذلة والانكسار يقرون بذنبهم ، ويعترفون بربهم ، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار ، ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود السياق ليعرض أمام الناس مظاهر أنعم الله عليهم ، ليأخذ بأيديهم إلى طريق الإيمان بالله . { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق } . ( غافر : 14 ، 15 ) .

ويعرض السياق مشهد ذلك اليوم في صورة حية مؤثرة ، فقد برز الجميع أمام الله ، العالم بالظواهر والبواطن ، وفي هذا المشهد تبلغ الروح الحلقوم ، وتذهب صولة الظالمين والطغاة ، فلا يجدون حميما ولا شفيعا لا يطاع في شفاعته ، لقد أصبح الملك والأمر والقضاء لله الواحد القهار .

الفصل الثاني : رجل مؤمن يجاهد بالكلمة .

يستغرق الفصل الثاني الآيات من ( 21-55 ) ويبدأ بلفت أنظار المشركين إلى ما أصاب المكذبين قبلهم ، ثم يعرض جانبا من قصة موسى – عليه السلام – مع فرعون وهامان وقارون ، يمثل موقف الطغاة من دعوة الحق ، ويعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل ، ولا تعرض إلا في هذه السورة وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ، يدافع عن موسى ، ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر ، ثم في صراحة ووضوح في النهاية ، ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة ، يحذرهم يوم القيامة ، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر ، ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف عليه السلام ورسالته ، ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة فإذا هم هناك ، وإذا هم يتحاجون في النار ، وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا ، وحوار لهم جميعا مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص ، ولات حين خلاص ، وفي ظل هذا المشهد يوضح الحق سبحانه أن العاقبة للمرسلين في الدنيا ويوم القيامة ، فقد نصر الله موسى رغم جبروت فرعون ، ثم يدعو الرسول الأمين إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق ، والتوجه إلى الله بالتسبيح والحمد والاستغفار .

الفصل الثلث : الترغيب والترهيب .

يستغرق الفصل الثالث الآيات من ( 65-77 ) ويبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق ، وهو أصغر وأضأل من هذا الكبر ، ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله ، وهو أكبر من الناس جميعا ، ولعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله ، وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عميا : { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون } . ( غافر : 58 ) .

ويذكرهم بمجيء الساعة ، ثم يفتح الباب أمامهم إلى دعاء الله والاستجابة لأمره ، فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين ، ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين ، يعرض عليهم الليل وقد جعله الله سكنا ، والنهار مبصرا ، والأرض قرارا ، والسماء بناء ، ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم ، ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين ، ويلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من عبادتهم ، وأن يعلن إسلامه لرب العالمين ، ثم يلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة . . وهو الذي يحيي ويميت . ثم يعود فيعجب رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الذين يجادلون في الله وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف ، تعلق فيه الأغلال في أعناقهم ويسحبون في الحميم ، ويحرقون في النار جزاء كفرهم وشركهم بالله ، وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر والثقة بأن وعد الله حق ، سواء أبقاه حتى يشهد ما يعدهم ، أو يتوفاه قبل أن يراه فسيتم الوعد هناك .

الفصل الرابع : نهاية الظالمين .

يشمل الفصل الرابع على الآيات الأخيرة في السورة من ( 78-85 ) ويذكر أن الله أرسل رسلا وأنبياء كثيرين لهداية الناس ، منهم من ذكر في القرآن ومنهم من لم يذكر : { وما كان لرسول أن يأتي بآية . . . } وأن يقدم معجزة لقومه : { إلا بإذن الله . . . } ( غافر : 78 ) . على أن في الكون آيات قائمة وبين أيديهم آيات قريبة ، ولكنهم يغفلون عن تدبرها . . هذه الأنعام المسخرة لهم ، من سخرها ؟ وهذه الفلك التي تحملهم ، أليست آية يرونها ؟ ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى ؟ وتختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين وهم يرون بأس الله فيؤمنون حيث لا ينفعهم الإيمان : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } . ( غافر : 85 )

عظمة الخالق ، وعقاب المكذبين

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( 2 ) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ( 3 ) ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( 4 ) كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسلهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب ( 5 ) وكذلك حقت كلمات ربك على الذين كفروا وأنهم أصحاب النار ( 6 ) }

المفردات :

حم : حروف مقطعة ، بدأ الله بها بعض السور للتنبيه ، أو للتحدي والإعجاز .

1

التفسير :

1 ، 2- { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } .

حم : حروف للتنبيه ، مثل الجرس الذي يُقرع ، فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة ، أو هي حروف للتحدّي والإعجاز ، كما تقدم بيان ذلك في سور سابقة .

{ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } .

هذا الكتاب ليس سحرا ولا شعرا ولا كهانة ، ولا افتراء من عند محمد ، كما يدعي الكافرون ، بل هو تنزيل من عند الله ، العزيز في انتقامه من أعدائه ، العليم بعباده ظاهرهم وباطنهم ، والمحاسب والمجازي على أفعال العباد .


[1]:- حاشية الجمل 2/647 نقلا عن تفسير الخازن.
 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة غافر مكية ، آياتها خمس وثمانون ، نزلت بعد سورة الزمر ، ويسميها بعضهم " المؤمن " . وهي كسائر السور المكية تعالج قضية التوحيد ، والبعث والوحي والرسالة . ومن أهم ما عالجته قضية الحق والباطل والإيمان والكفر ، وقضية الدعوة والتكذيب ، ووصف الكتاب الكريم ، وأن الله تعالى هو العزيز العليم ، وهو غافر الذنب وقابل التوبة . وهذه هي الصفات التي يتحلى بها دائما ، وأنه على الجاحدين المكذبين شديد العقاب . ثم تمر السورة مرا سريعا بالذين يجادلون في آيات الله بالباطل ، وأنهم هم وما أوتوا وما جادلوا به ليس لهم قيمة وما مصيرهم إلا إلى النار . ثم تصف الملائكة وحملة العرش منهم خاصة ، وكيف يسبّحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ، كما تذكر استجابة الله لدعائهم ، وما ينتظر المؤمنين في الآخرة من نعيم .

وتتحدث السورة في أكثر من موضع عن آيات الله وقدرته في السموات والأرض ، ودعوة الناس إلى توحيده بالعبادة . { فادْعوا الله مخلصين له الدين } . وقد اشتملت السورة في عدد من آياتها على التذكير باليوم الآخر : { وأنذرهم يوم الآزفة ، إذِ القلوب لدى الحاجر كاظمين } .

وجوّ السورة كله جوّ المعركة بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والطغيان ، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض ، وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والعذاب . وتجد بين ذلك استراحات لطيفة من جوّ نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين .

وكما ذكرت في مقدمة الكلام فإن السورة افتتحت بقوله تعالى { غافر الذنب وقابل التوب } فالله سبحانه وتعالى تغلب عنده صفاتُ الرحمة والرأفة على صفات العذاب والعقاب ، وبذلك سميت سورة " غافر " .

وفي أثناء السورة يقع الحديث عن قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه ، ويأتي فيها ذكر رجل مؤمن من آل فرعون يُخفي إيمانه ، يَصْدَع بكلمة الحق في تلطف وحذر ، ثم في صراحة ووضوح . وهو ينصح قومه ألاّ يقتلوا موسى ، ويذكّرهم بعذاب الله وانتقامه . . ولكن فرعون لا يسمع له ، ويظل على استبداده وتجبره وطغيانه . ويكرر الرجل المؤمن نصائحه ولكن لا أحد يسمع له . وتنتهي القصة بهلاك فرعون وأتباعه ، ونجاة المؤمن ، الذي يقول لهم : { يا قوم ، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار . . . } إلى أن يقول لهم : { فستذكرون ما أقول لكم ، وأفوّض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد } . وتختم القصة بنجاته وهلاك فرعون وآله { فوقاه الله سيئات ما مكروا ، وحاق بآل فرعون سوء العذاب . . . } .

وفي جو السورة عرض لمصارع الغابرين ، وعرض لمشاهدَ من القيامة ، وتتكرر آياتها بشكل ظاهر . وهي تعرض في صورها العنيفة المخيفة تلك المشاهدَ متناسقة مع جو السورة كله ، مثل طلب أهل النار الخروجَ منها لشدة الهول ، ورفض طلبهم ، وغير ذلك مما يدور فيه الحوار .

وتختم السورة بدعوة الناس إلى أن يسيروا في الأرض لينظروا ما حل بالأمم قبلهم ، وكيف كان عاقبة غرورهم بما عندهم من العلم . فلما حل بهم عذاب الله قالوا : آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما أشركنا به ، ولكنهم آمنوا بعد فوات الأوان ، { فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ، سنة الله التي قد خلت في عباده وخَسِرَ هنالك الكافرون } . ولن تجد لسنة الله تبديلا .

حاميم هكذا تقرأ . حرفان من حروف الهجاء ، بدئت بهما السورة للإشارة إلى أن القرآن مؤلف من جنس هذه الحروف ، ومع ذلك عجِز المشركون عن الإتيان بأصغر سورة من مثله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة غافر، سورة المؤمن مكية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه السورة مكية بإجماع، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية وهذا ضعيف والأول أصح، وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن ووقفه الزجاج على ابن مسعود، ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا، وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة، وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال: من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم. وهذا نحو الكلام الأول في المعنى. وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة تعالج قضية الحق والباطل. قضية الإيمان والكفر. قضية الدعوة والتكذيب وأخيراً قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق، وبأس الله الذي يأخذ العالين المتجبرين.. وفي ثنايا هذه القضية تلم بموقف المؤمنين المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم، واستغفار الملائكة لهم، واستجابة الله لدعائهم، وما ينتظرهم في الآخرة من نعيم.

وجو السورة كله -من ثم- كأنه جو معركة. وهي المعركة بين الحق والباطل، وبين الإيمان والطغيان، وبين المتكبرين المتجبرين في الأرض وبأس الله الذي يأخذهم بالدمار والتنكيل. تنسم خلال هذا الجو نسمات الرحمة والرضوان حين يجيء ذكر المؤمنين!

ذلك الجو يتمثل في عرض مصارع الغابرين، كما يتمثل في عرض مشاهد القيامة -وهذه وتلك تتناثر في سياق السورة وتتكرر بشكل ظاهر- وتعرض في صورها العنيفة المرهوبة المخيفة متناسقة مع جو السورة كله، مشتركة في طبع هذا الجو بطابع العنف والشدة.

ولعله مما يتفق مع هذه السمة افتتاح السورة بإيقاعات ذات رنين خاص: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب. ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. فكأنما هي مطارق منتظمة الجرس ثابتة الوقع، مستقرة المقاطع، ومعانيها كذلك مساندة لإيقاعها الموسيقي!

كذلك نجد كلمة البأس. وبأس الله. وبأسنا.. مكررة تتردد في مواضع متفرقة من السورة. وهناك غيرها من ألفاظ الشدة والعنف بلفظها أو بمعناها.

وعلى العموم فإن السورة كلها تبدو وكأنها مقارع ومطارق تقع على القلب البشري وتؤثر فيه بعنف وهي تعرض مشاهد القيامة ومصارع الغابرين. وقد ترق أحياناً فتتحول إلى لمسات وإيقاعات تمس هذا القلب برفق، وهي تعرض حملة العرش ومن حوله يدعون ربهم ليتكرم على عباده المؤمنين، أو وهي تعرض عليه الآيات الكونية والآيات الكامنة في النفس البشرية.

ونضرب بعض الأمثال التي ترسم جو السورة وظلها من هذه وتلك..

من مصارع الغابرين: (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم، وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق. فأخذتهم. فكيف كان عقاب؟).. (أو لم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم، كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض، فأخذهم الله بذنوبهم؛ وما كان لهم من الله من واق. ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، إنه قوي شديد العقاب)..

ومن مشاهد القيامة: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع).. (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون..)

ومن اللمسات الندية مشهد حملة العرش في دعائهم الخاشع المنيب: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا. ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات، ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته. وذلك هو الفوز العظيم)..

ومن اللمسات الموحية عرض آيات الله في الأنفس وفي الآفاق: (هو الذي خلقكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم يخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ثم لتكونوا شيوخاً. ومنكم من يتوفى من قبل، ولتبلغوا أجلاً مسمى، ولعلكم تعقلون. هو الذي يحيي ويميت. فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون).. (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً. إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء. لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟).. (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم. ورزقكم من الطيبات. ذلكم الله ربكم. فتبارك الله رب العالمين).

وهذه وتلك تصور جو السورة وترسم ظلها، وتتناسق مع موضوعها وطابعها.

ويجري سياق السورة بموضوعاتها في أربعة أشواط متميزة.

يبدأ الشوط الأول منها بافتتاح السورة بالأحرف المقطعة: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) تتلوها تلك الإيقاعات الرصينة الثابتة: (غافر الذنب. وقابل التوب. شديد العقاب ذي الطول. لا إله إلا هو. إليه المصير).. ثم تقرر أن الوجود كله مسلم مستسلم لله. وأنه لا يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فيشذون عن سائر الوجود بهذا الجدال. ومن ثم فهم لا يستحقون أن يأبه لهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مهما تقلبوا في الخير والمتاع. فإنما هم صائرون إلى ما صارت إليه أحزاب المكذبين قبلهم؛ وقد أخذهم الله أخذاً، بعقاب يستحق العجب والإعجاب! ومع الأخذ في الدنيا فإن عذاب الآخرة ينتظرهم هناك.. ذلك بينما حملة العرش ومن حوله يعلنون إيمانهم بربهم، ويتوجهون إليه بالعبادة، ويستغفرون للذين آمنوا من أهل الأرض، ويدعون لهم بالمغفرة والنعيم والفلاح.. وفي الوقت ذاته يعرض مشهد الكافرين يوم القيامة وهم ينادون من أرجاء الوجود المؤمن المسلم المستسلم: (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون).. وهم في موقف الذلة والانكسار بعد الاستكبار، يقرون بذنبهم، ويعترفون بربهم، فلا ينفعهم الاعتراف والإقرار، إنما يذكرون بما كان منهم من شرك واستكبار.. ومن هذا الموقف بين يدي الله في الآخرة يعود بالناس إلى الله في الدنيا.. (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً) ويذكرهم لينيبوا إلى ربهم ويوحدوه: (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). ويشير إلى الوحي والإنذار بذلك اليوم العصيب. ويستطرد إلى مشهدهم يوم القيامة: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء) وقد توارى الجبارون والمتكبرون والمجادلون: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار).. ويستمر في عرض صور من هذا اليوم الذي يتفرد الله جل جلاله فيه بالحكم والقضاء. ويتوارى فيه ويضمحل ما يعبدون من دونه، كما يتوارى الطغاة والفجار..

ويبدأ الشوط الثاني بلفتة إلى مصارع الغابرين قبلهم. مقدمة لعرض جانب من قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون وهامان وقارون. تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق. وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة. وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه. يدفع عن موسى ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية. ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف -عليه السلام- ورسالته.. ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة. فإذا هم هناك. وإذا هم يتحاجون في النار. وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعاً مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص. ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار.

فأما الشوط الثالث فيبدأ بتقرير أن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان إنما يدفعهم إلى هذا كبر في نفوسهم عن الحق، وهم أصغر وأضأل من هذا الكبر. ويوجه القلوب حينئذ إلى هذا الوجود الكبير الذي خلقه الله، وهو أكبر من الناس جميعاً. لعل المتكبرين يتصاغرون أمام عظمة خلق الله؛ وتتفتح بصيرتهم فلا يكونون عمياً: (وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء. قليلاً ما تتذكرون). ويذكرهم بمجيء الساعة، ويوجههم إلى دعوة الله الذي يستجيب للدعاء. فأما الذين يستكبرون فسيدخلون جهنم أذلاء صاغرين. ويعرض في هذا الموقف بعض آيات الله الكونية التي يمرون عليها غافلين. يعرض الليل سكناً والنهار مبصراً. والأرض قراراً والسماء بناء. ويذكرهم بأنفسهم وقد صورهم فأحسن صورهم. ويوجههم إلى دعوة الله مخلصين له الدين. ويلقن الرسول [صلى الله عليه وسلم] أن يبرأ من عبادتهم، ويعلن نهي ربه له عن آلهتهم، وأمره له بالإسلام لرب العالمين. ويلمس قلوبهم بأن الله الواحد هو الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة.. وهو الذي يحيي ويميت. ثم يعود فيعجب رسوله [صلى الله عليه وسلم] من أمر الذين يجادلون في الله؛ وينذرهم عذاب يوم القيامة في مشهد عنيف: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون).. وإذ يتخلى عنهم ما أشركوا وينكرون هم أنهم كانوا يعبدون شيئاً! وينتهي بهم الأمر إلى جهنم يقال لهم: (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين).. وعلى ضوء هذا المشهد يوجه الله رسوله إلى الصبر مرة أخرى، والثقة بأن وعد الله حق. سواء أبقاه حتى يشهد بعض ما يعدهم أو توفاه قبل أن يراه. فسيتم الوعد هناك..

والشوط الأخير في السورة يتصل بالشوط الثالث. فبعد توجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] للصبر والانتظار يذكر أن الله قد أرسل رسلاً قبله كثيرين. (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. على أن في الكون آيات قائمة، وبين أيديهم آيات قريبة؛ ولكنهم يغفلون عن تدبرها.. هذه الأنعام المسخرة لهم. من سخرها؟. وهذه الفلك التي تحملهم أليست آية يرونها! ومصارع الغابرين ألا تثير في قلوبهم العظة والتقوى؟ ويختم السورة بإيقاع قوي على مصرع من مصارع المكذبين، وهم يرون بأس الله فيؤمنون (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا. سنة الله التي قد خلت في عباده، وخسر هنالك الكافرون).. هذا الختام الذي يصور نهاية المتكبرين، ويتفق مع جو السورة وظلها وطابعها الأصيل.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وردت تسمية هذه السورة في السنة (حم المؤمن) روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وسلم "من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما "الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح...

وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب...

وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.

والسور المفتتحة بكلمة {حم} سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان...

وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة {حم} فقيل ألحواميم...

وقد ثبت أنهم جمعوا {حم} على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح...

أغراض هذه السورة:

تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.

وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.

وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.

وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه.

والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.

وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.

والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.

والاستدلال على إمكان البعث.

وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.

وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.

وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.

وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

فصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة..

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

...قوله "حم"... القول في ذلك عندي نظير القول في أخواتها، وقد بيّنا ذلك.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

الحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة، وأمثالها: من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه.

تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :

أحسن الآراء أنها كلمات يراد بها التنبيه في أول الكلام نحو (ألا) و (يا) وينطق بأسمائها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة بدء سبع سور كلها تبدأ بالحرفين: حا. ميم. منها سورة واحدة يذكر فيها بعد هذين الحرفين ثلاثة حروف أخر: عين. سين. قاف. وقد سبق الحديث عن الأحرف المقطعة في أوائل السور. وأنها إشارة إلى صياغة هذا القرآن منها. وهو معجز لهم مع تيسير هذه الأحرف لهم ومعرفتهم بها، وهي أحرف لغتهم التي يتحدثونها ويكتبونها.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته. وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{حمٓ} (1)

مقدمة السورة:

وسورة الغافر مكية وهي ثمانون آية

{ حم } قضي ما هو كائن