تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة ق

أهداف سورة ق

سورة ( ق ) سورة مكية ، وآياتها 45 آية ، نزلت بعد سورة المرسلات .

سورة الخطبة

كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة بسورة ( ق ) ، حتى قالت النساء : ما حفظنا سورة ( ق ) إلا من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بها ، وهي سورة تحمل أصول التوحيد ، وتلفت النظر إلى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض ، وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات ، وترشد إلى سنن الله في إهلاك الظالمين ، واستحقاق الوعيد للمكذبين ، وتجول بالإنسان داخل نفسه ، وتستعرض مشاهد القيامة ، وجزاء المتقين في الجنة وجزاء العصاة في النار .

وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخاذا ، له سيطرته على النفس والحس ، وطريقته الفذة في هز أوتار القلوب .

جاء في ظلال القرآن :

سورة ( ق ) سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها ، تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها ، تتعقبها برقابة الله التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات ، إلى البعث إلى الحشر إلى الحساب ، وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة ، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا ، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا ، كل نفس معدود ، وكل هاجسة معلومة ، وكل لفظ مكتوب ، وكل حركة محسوبة ، والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح ، ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .

وكل هذه حقائق معلومة ، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ، وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب .

وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر ، وإلى إرهاص الساعة في النفس ، وتوقعها في الحس ، وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبات ، وفي التمر والطلع . 1

{ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } . ( ق : 8 ) .

فواتح السور

تبدأ سورة ( ق ) بهذا الحرف المفرد : ق .

وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطعة ، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل : { ص والقرآن ذي الذكر } . ومثل : { ق والقرآن المجيد } . ومثل : { ن والقلم وما يسطرون } .

ومنها ما بدأ بحرفين مثل : { طه } . ومثل : { يس } . ومثل : { حم } .

ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل : { ألر } . { ألم } . { طسم } .

ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل : { المص } . { المر } .

ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل : { كهيعص } . ومثل : { حم * عسق } .

معاني هذه الفواتح :

هناك رأيان في معنى هذه الفواتح :

الرأي الأول : إنها مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولذلك نجد في تفسير الجلالين ، وهو تفسير مختصر : ق : الله أعلم بمراده به .

الرأي الثاني : أن لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى :

1- فمنهم من قال : هي أسماء للسور التي بدئت بها .

2- ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وروى عن الضحاك في معنى ( ألر ) : أنا الله أرفع .

3- ومنهم من قال : هي قسم .

4- ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فينبه التلاميذ لدخول المدرسة .

5- ومنهم من قال : هي حروف للتحدي وبيان إعجاز القرآن .

6- وقيل : إن هذه الأحرف قد اشتملت على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها ، فهي أسماء للسور ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته ، وهي للقسم ، وهي أدوات للتنبيه ، وهي حروف للتحدي والإعجاز ، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه .

معاني سورة ق

هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله وعلى تأكيد البعث والجزاء .

وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين ، وعرض أفكارهم وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم ، كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت ، واستدلوا بدليل ساذج هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا .

والقرآن يوضح قدرة الله وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم ، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا ، أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي . ( الآيات : 1-5 ) .

ويلفت القرآن نظر الناس إلى آثار قدرة الله ، فالسماء سقف مرفوع ، والأرض بساط تحفظه الجبال ، وتجري فيه الأنهار ، وتنمو فيه صنوف النبات ، والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء ، وينبت الحب والنخيل والأعناب ، ويبعث الحياة في الزرع والأرض ، وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم ، بعد جمع ما تفرق من أجزائهم الأصلية . ( الآيات : 6-11 ) .

ويلفت القرآن النظر إلى عبرة التاريخ ويذكر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق ، وما أصاب المكذبين من الوعيد والهلاك ، ومنهم أصحاب الرس ( والرس هي البئر ) وأصحاب الرس بقية من ثمود ، كانت لهم بئر فكذبوا نبيهم ودسوه في البئر . وأصحاب الأيكة : وهم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة ، وهي الشجر الملتف الكثيف . وقوم تبع ، وتبع لقب لملوك حمير باليمن .

إن هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية ، وكذبوا رسل الله إليهم ، فاستحقوا عذاب السماء ، وهذا العذاب يصيب كل مكذب بالله وأنبيائه . ( الآيات : 12-15 ) .

رقابة الله

خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها ، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور ، مطلع على هواجس النفوس ، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، وهناك ملائكة تسجل أعمال العباد ، نؤمن بها ونفوض حقيقة المراد منها إلى الله تعالى ، ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل ، تسجل الحركة والنبرة ، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتليفزيون ، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله بالحق والعدل . ( الآيات : 16-18 ) .

قال تعالى : { كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } . ( الانفطار : 11 ، 12 ) .

مشاهد القيامة

تحدثت السورة عن البعث والحشر ، ولفتت الأنظار إلى آثار الله في الآفاق ، وإلى سنته في التاريخ ، وإلى عجيب صنعه في حنايا البشرية . ومن إعجاز القرآن أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر ، ويلون في أسلوب العرض ، ويعرض النفس الإنسانية لسائر المؤثرات ، رغبة في الهداية والإصلاح . قال تعالى : { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } . ( طه : 113 ) .

وقد عرضت سورة ( ق ) لمشاهد القيامة ، وفي مقدمتها حضور سكرة الموت فجأة بلا مقدمات ، والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطئ الخطأ ولا يخلف الميعاد ، { ذلك ما كنت منه تحيد } . ( ق : 19 ) . أي : تهرب وتفزع ، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفر ، وتنتقل الآيات من سكرة الموت إلى وهلة الحشر وهول الحساب ، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح ، وتحارب الغرور والطغيان ، وتدعو للتقي والإيمان ، فملك الموت ينفخ في الصور ، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع إلى الحساب ، وتأتي كل نفس ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها ، وقد يكونان الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا ، وقد يكونان غيرهما ، والأول أرجح ، عندئذ يتقين المنكر ، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهدا أمامه ، ينظر إليه ببصر حديد نافذ لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون . ( الآيات : 19-22 ) .

ويشتد غضب الجبار على العصاة المعاندين ، فيأمر الله الملكين -السائق والشهيد- أن يلقيا في النار كل كفور عنيد ، مناع للخير متجاوز للحدود شاك في الدين ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، فاستحق العذاب الشديد .

ويشتد الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة ، يحاول كل أن يتنصل من تبعة جرائمه ، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنم تتلمظ غيظا على من عصا الله ، ويلقى فيها العصاة ، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين ، وتقول في كظة الأكول النهم : { هل من مزيد } . ( الآيات : 24-30 ) .

وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف رضّى جميل ، إنه مشهد الجنة تقرب من المتقين حتى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم . ( الآيات : 31-35 ) .

ختام السورة

في الآيات الأخيرة من السورة ( الآيات : 38-45 ) نجد ختاما مؤكدا للمعاني السابقة ، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن ، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع ، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين ، وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين ، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب : { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } . ( ق : 39 ) . وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض ، والقرآن يربط إليها التسبيح والحمد والسجود ، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القوي القادر ، فعليك يا محمد أن تبلغ القرآن للناس علهم يتعظون أو يخافون : { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . ( ق : 45 ) . وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت لفؤاده ، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين .

أهداف السورة إجمالا

قال الفيروزبادي :

مقصود سورة ( ق ) : إثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبيان حجة التوحيد ، والإخبار عن إهلاك القرون الماضية ، وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم ، وذكر الملائكة الموكلين على الخلق المشرفين على أقوالهم ، وذكر بعث القيامة ، وذل العصاة يومئذ ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم ، وتغيظ الجحيم على أهلها ، وتشرف الجنة بأهلها ، والخبر عن تخليق السماء والأرض ، وذكر نداء إسرافيل بنفخه في الصور ، وتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد2 .

1

المفردات :

ق : حروف افتتح الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وجذب الانتباه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .

والقرآن المجيد : المجيد ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، لكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي .

التفسير :

1- { ق . . . }

حروف بدأ الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها ، وكثيرا ما يأتي ذكر القرآن بلفظه أو بمحتواه بعد هذه الأحرف ، مما يدل على أن من أهدافها التحدي بهذا الكتاب ، والتنبيه إلى أهميته وفضله ، وهذه الأحرف :

1- منها ما هو مكون من حرف واحد ، مثل : ق . ن . ص .

2- منها ما هو مكون من حرفين ، مثل : حم . طه . يس .

3- منها ما هو مكون من ثلاثة أحرف ، مثل : طسم . الر . الم .

4- منها ما هو مكون من أربعة أحرف ، مثل : المص ، المر .

5- منها ما هو مكون من خمسة أحرف ، مثل : كهيعص . حم * عسق .

وقد أقسم الله تعالى بأمور كثيرة لبيان فضلها ، أو لفت الأنظار إليها ، أو بيان العظمة الإلهية في خلقها وتسخيرها ، ومما أقسم الله به ما يأتي مفردا أي مرة واحدة ، وأحيانا يقسم بأمرين ، وأحيانا بثلاثة أمور ، وأحيانا بأربعة أمور ، وبخمسة أمور ، ومثل ذلك ما يأتي :

1- القسم بأمر واحد مثل : { والعصر } ( العصر : 1 ) ، ومثل : { والنجم إذا هوى } . ( النجم : 1 ) .

2- القسم بأمرين مثل : { والضحى * والليل إذا سجى } . ( الضحى : 1 ، 2 ) ، ومثل : { والسماء والطارق } . ( الطارق : 1 ) .

3- القسم بثلاثة أمور ، مثل : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } . ( الصافات : 1-4 ) .

4- القسم بأربعة أمور ، مثل : { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } . ( الذاريات : 1-6 ) .

ومثل : { والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود } . ( البروج : 1-3 ) .

ومثل : { والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . ( التين : 1-4 ) .

5- القسم بخمسة أمور مثل : { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور } . ( الطور : 1-6 ) .

وفي ( والمرسلات . . . ) ، وفي ( والنازعات ) ، وفي ( والفجر . . . ) .

ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة ، وهي : { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } . ( الشمس : 1-10 ) .

عود إلى التفسير

{ والقرآن المجيد } .

وأقسم بالقرآن صاحب المجد والشرف ، والكرم والسعة ، الذي يجد فيه كل طالب حاجته ، والذي هيمن على الكتب السماوية السابقة ، ووضح صوابها ، وما فيها من تحريف أو تبديل ، والذي ختم الله به الكتب ، وجعله مشتملا على أصول التشريع والآداب ، والقصص والتاريخ ، وسنن الكون ، ونواميس الوجود ، وأخبار القيامة والبعث والحشر ، والجزاء والعقاب ، والجنة والنار ، مع سلامة اللفظ ورشاقة المعنى ، وقوة السبك ، وجزالة الأداء ، مع الاشتمال على صنوف الإعجاز ، وعجز العلوم مع تقدمها عن أن تنقض أي حكم من أحكامه ، واشتماله على الإعجاز الغيبي ، والإعجاز التشريعي ، والإعجاز البلاغي ، والإعجاز اللفظي ، والإعجاز العلمي ، وموافقته لكل زمان ومكان ، وهو ناسخ لما سبقه ، غير منسوخ إلى يوم الدين .

قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .

ومعنى الآية : أقسم ب ق ، وأقسم بالقرآن المجيد ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده ، وتقديره : إنك أيها الرسول لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق ، ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون ، نزلت بعد سورة المرسلات . وهي وسورة ص تشتركان في افتتاح أولهما بحرف من حروف المعجم ، والقسم بالقرآن والتعجب ففي ص : { ص ، والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق } وهنا { ق ، والقرآن المجيد ، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم . . . }

وتشتركان في الختام في نفس المعنى : فقال تعالى في ختام ص { إن هو إلا ذكر للعالمين } ، وقال آخر ق { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . وتسمى أيضا : الباسقات .

وتشتمل السورة على أشياء كثيرة : أولها القسَم بالقرآن الكريم وتمجيده ، وتعجّب المشركين أن جاءهم رسول منهم ينذرهم ، وإنكارهم للنبوة والبعث ، ثم الحث على النظر في هذا الكون ، في السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفي الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها البهيجة ، ومطرها الغزير كيف يحيي الأرض بعد موتها ، ونخلها الباسقات ، ودولها من عاد إلى أصحاب الأيكة وقوم تبّع ، وما استحقوا من وعيد وعذاب ، وما فيها من تقريع للإنسان على سوء أعماله ، إنه مسئول عن دخائل نفسه ، ومحاط بالكرام الكاتبين ، يُحصون أعماله ، ويرقُبون أقواله ، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق-كُشف له الغطاء ، ووقع الخصام ، وتعادى المحبّون ، وملئت جهنم بأهلها ، وأنعم الله على المؤمنين بالجنة ونعيمها غير المحدود { لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد } .

ثم خُتمت السورة بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم ، وتوجيهه إلى الثبات على عبادة الله وتأكيد أمر البعث ، وأن مهمته الإرشاد وتذكير المؤمنين ، ودعوة الناس إلى القرآن الكريم ، وأنه ليس عليهم بمسيطر ، { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار ، فذكّرْ بالقرآن من يخاف وعيد } .

ولهذه السورة شأن كبير ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يخطب بها في العيد والجمعة . قالت أم هشام ابنة حارثة الأنصارية : " ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من رسول الله ، كان يقرأ بها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة . وفي القرطبي : في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة ابن النعمان قالت : لقد كان تنوّرنا وتنوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .

مجيد : وافر المجد ، واسمٌ من أسماء الله الحسنى ، يقال : مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد . ويقال : مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد . والمجد : المروءة والسخاء والكرم والشرف .

{ ق } : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان .

أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف : إنا أرسلناك يا محمد ، لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر . قال ابن عباس وقتادة : إلا آية ، وهي قوله تعالى : " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب " [ ق : 38 ] . وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : لقد كان تَنُّورُنا وتَنُّورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين - أو سنة وبعض سنة - وما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر ؟ فقال : كان يقرأ فيهما ب " ق والقرآن المجيد " و " اقتربت الساعة وانشق القمر " . وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب " ق والقرآن المجيد " وكانت صلاته بعد تخفيفا .

قوله تعالى : " ق والقرآن المجيد " قرأ العامة " قاف " بالجزم . وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم " قاف " بكسر الفاء ؛ لأن الكسر أخو الجزم ، فلما سكن آخره حركوه بحركة الخفض . وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء حركه إلى أخف الحركات . وقرأ هارون ومحمد بن السميقع " قاف " بالضم ؛ لأنه في غالب الأمر حركة البناء نحو منذ وقد وقبل وبعد . واختلف في معنى " قاف " ما هو ؟ فقال ابن زيد وعكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء أخضرت السماء منه ، وعليه طرفا السماء والسماء عليه مَقْبِيَةٌ ، وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل . ورواه أبو الجوزاء عن عبدالله بن عباس . قال الفراء : كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في " ق " ؛ لأنه اسم وليس بهجاء . قال : ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه ، كقول القائل :

قلت لها قِفي فقالت قَافْ

أي أنا واقفة . وهذا وجه حسن وقد تقدم أول " البقرة " {[14141]} . وقال وهب : أشرف ذو القرنين على جبل قاف فرأى تحته جبالا صغارا ، فقال له : ما أنت ؟ قال : أنا قاف ، قال : فما هذه الجبال حولك ؟ قال : هي عروقي وما من مدينة إلا وفيها عرق من عروقي ، فإذا أراد الله أن يزلزل مدينة أمرني فحركت عرقي ذلك ، فتزلزلت تلك الأرض ، فقال له : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إن شأن ربنا لعظيم ، وإن ورائي أرضا مسيرة خمسمائة عام في خمسمائة عام من جبال ثلج يحطم به بعضها بعضا ، لولا هي لاحترقت من حر جهنم . فهذا يدل على أن جهنم على وجه الأرض والله أعلم بموضعها ، وأين هي من الأرض{[14142]} . قال : زدني ، قال : إن جبريل عليه السلام واقف بين يدي الله ترعد فرائصه ، يخلق الله من كل رعدة مائة ألف ملك ، فأولئك الملائكة وقوف بين يدي الله تعالى منكسو رؤوسهم ، فإذا أذن الله لهم في الكلام قالوا : لا إله إلا الله ، وهو قوله تعالى : " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " {[14143]} [ النبأ : 38 ] يعني قوله : لا إله إلا الله .

وقال الزجاج : قوله " ق " أي قضي الأمر ، كما قيل في " حم " أي حم الأمر . وقال ابن عباس : " ق " اسم من أسماء الله تعالى أقسم به . وعنه أيضا : أنه اسم من أسماء القرآن . وهو قول قتادة . وقال القرظي : افتتاح أسماء الله تعالى قدير وقاهر وقريب وقاض وقابض . وقال الشعبي : فاتحة السورة . وقال أبو بكر الوراق : معناه قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما . وقال محمد بن عاصم الأنطاكي : هو قرب الله من عباده ، بيانه " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " [ ق : 16 ] وقال ابن عطاء : أقسم الله بقوة قلب حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث حمل الخطاب ولم يؤثر ذلك فيه لعلو حاله .

قوله تعالى : " والقرآن المجيد " أي الرفيع القدر . وقيل : الكريم ، قاله الحسن . وقيل : الكثير ، مأخوذ من كثرة القدر والمنزلة لا من كثرة العدد ، من قولهم : كثير فلان في النفوس ، ومنه قول العرب في المثل السائر : " كل شجر نار ، واستمجد المَرْخُ والعَفَار{[14144]} " . أي استكثر هذان النوعان من النار فزادا على سائر الشجر ، قاله ابن بحر . وجواب القسم قيل هو : " قد علمنا ما تنقص الأرض منهم " على إرادة اللام ، أي لقد علمنا . وقيل : هو " إن في ذلك لذكرى " وهو اختيار الترمذي محمد بن علي قال : " ق " قسم باسم هو أعظم الأسماء التي خرجت إلى العباد وهو القدرة ، وأقسم أيضا بالقرآن المجيد ، ثم اقتص ما خرج من القدرة من خلق السموات والأرضين وأرزاق العباد ، وخلق الآدميين ، وصفة يوم القيامة والجنة والنار ، ثم قال : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب " [ ق : 37 ] فوقع القسم على هذه الكلمة كأنه قال : " ق " أي بالقدرة والقرآن المجيد أقسمت أن فيما اقتصصت في هذه السورة " لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " [ ق : 37 ] . وقال ابن كيسان : جوابه " ما يلفظ من قول " . وقال أهل الكوفة : جواب هذا القسم " بل عجبوا " . وقال الأخفش : جوابه محذوف كأنه قال : " ق والقرآن المجيد " لتبعثن ، يدل عليه " أئذا متنا وكنا ترابا " .


[14141]:راجع جـ 1 ص 155.
[14142]:الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
[14143]:راجع جـ 19 ص 184.
[14144]:المر خ والعفار: شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوّى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق

مكية إلا آية 38 فمدنية وآياتها 45 نزلت بعد المرسلات

تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص ق بأنه قيل : إنه من اسم الله القاهر أو القدير وقيل : هو اسم للقرآن وقيل : اسم للجبل الذي يحيط بالدنيا { والقرآن المجيد } من المجد وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره ما ردوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك وعبر عن هذا المحذوف وقع الإضراب ببل وقيل : الجواب ما يلفظ من قول ، وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وقيل : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق وتسمى الباسقات{[1]}

مقصودها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه{[2]} الإعلام{[3]} بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم{[4]} لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد ، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الملك الذي هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة ، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة [ مجد-{[5]} ] القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكيب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل إلى حد لا تطيقه القوى ، ومن إحاطة أوصاف الرسول الذي اختاره سبحانه لإبلاغ هذا الكتاب في الخلق ، وما شوهد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات{[6]} الإيجاد والإعدام ، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته{[7]} من إثبات المجد بهذا الكتاب ، والمجد هو الشرف والكرم{[8]} والرفعة والعلو ، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك ، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به ، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك ، أولا بمخرجها فإنه من أصل{[9]} اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى ، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو ، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية ، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق ، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية ، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث ، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو ، وهو لا يكون إلا مع الصدق ، ولإحاطتها سمى بها الجبل المحيط بالأرض ، هذا بمخرجها ، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة ، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا ، / وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل ، لما انفردت به عما شاركها من النبات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع ، فإنها جامعة للتفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوص النافع للافتراش والليف النافع للحبال ، ودون ذلك وأعلاه من الخلال ، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصها ، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها ، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الأقناء وتناضد الثمر ، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل { بسم الله } الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه صلى الله عليه وسلم من إحاطة الحمد ، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد { الرحمن } الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائعه ، فهو أصدق العباد ، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاد { الرحيم* } الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد .

لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه : { ق } إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة والقيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات ، بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث : الحلق واللسان والشفاه .

وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف : اعلم أن القرآن منزل مثاني ، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ، ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد ، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عدد الآي قصيرة مقدارها ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلفاً مما يعولهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد ، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة ، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين .

ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع ، والعاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، لذلك كانت{[61020]} سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة{[61021]} من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف ، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " نون " الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما ولهذه السورة المفتتحة بالحروف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع ، واقترن بها من التفضيل في سورها ما{[61022]} يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإتمامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها ، فهو صحيح في إحاطتها ومنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً{[61023]} من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما تقتضيه ، ومهما فسرت به من أنها من-{[61024]} أسماء الله تعالى أو{[61025]} من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء ، وصور الموجودات أو{[61026]} من أنها أقسام{[61027]} أقسم بها ، أو فواتح عرفت بها السور ، أو{[61028]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه محمد صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك ، وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا تختص بمحل مخصوص تلزمه علامة إعراب مخصوصة فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً {[61029]}أو نصباً{[61030]} أو رفعاً ، فتداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص ولا إعراب خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم ما يتم معنى - كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع{[61031]} استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام .

ولما أشار{[61032]} سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف ، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال : { والقرآن } أي الكتاب الجامع الفارق{[61033]} { المجيد * } الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام ، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي ، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة ، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم ، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء{[61034]} الفاتحة ما جربت{[61035]} أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعلم ما شهد ، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي ، وما شهد{[61036]} من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه ، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك ، فإنه سبحانه ذكرهم فيها-{[61037]} ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما-{[61038]} ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله{[61039]} بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت سورة الحجرات قد انطوت على جملة من الألطاف التي خص الله{[61040]} بها عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه ولا يعاملوه في الجهر بالقول كمعاملة بعضهم بعضاً ، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة ، وأمرهم بالتواضع في قوله { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وأخبرهم تعالى أن{[61041]} استجابتهم وامتثالهم{[61042]} هذه الأوامر ليست{[61043]} بحولهم ، ولكن بفضله وإنعامه ، فقال : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآيتين ، ثم أعقب ذلك بقوله { يمنون عليك أن أسلموا } الآية ، ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده ، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه ، بل جعله في طرف من حال من أمر و{[61044]}نهى في سورة الحجرات مع المساواة في الخلق وتماثل الأدوات فقال تعالى : { والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } الآيات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى وضوح الأدلة { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } الآيات ، ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم { كذبت قبلهم قوم نوح-{[61045]} } ليتذكر بمجموع هذا من قدم ذكره بحاله و-{[61046]}أمره ونهيه في سورة الحجرات ، ويتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه من الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه ، ثم التحمت الآي إلى{[61047]} قوله خاتمة السورة { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم } الآيات - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[61020]:في الأصل: كان.
[61021]:تكرر في الأصل.
[61022]:ومن هنا عادت نسخة مد واضحة.
[61023]:من مد، وفي الأصل: وجهها.
[61024]:زيد من مد.
[61025]:من مد، وفي الأصل: و.
[61026]:من مد، وفي الأصل: اختتام.
[61027]:من مد، وفي الأصل: أحد.
[61028]:في مد: كذلك.
[61029]:من مد، وفي الأصل: وبصلاة.
[61030]:من مد، وفي الأصل: وبصلاة.
[61031]:من مد، وفي الأصل: وضع.
[61032]:زيد في الأصل: إليها، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[61033]:من مد، وفي الأصل: الفاروق.
[61034]:ليس في مد.
[61035]:من مد، وفي الأصل: جرت.
[61036]:زيد في الأصل: له، ولم تكن الزيادة في فحذفناها.
[61037]:زيد من مد.
[61038]:زيد من مد.
[61039]:من مد، وفي الأصل: منزلته.
[61040]:ليس في مد.
[61041]:زيد من مد.
[61042]:في مد: امتثال.
[61043]:من مد، وفي الأصل: ليس.
[61044]:من مد، وفي الأصل: أو.
[61045]:زيد من مد.
[61046]:زيد من مد.
[61047]:من مد، وفي الأصل: في.