أن تبرّوهم : أي : تفعلوا البرّ والخير لهم .
وتقسطوا إليهم : وتعدلوا فيهم بالبر والإحسان .
8-{ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
لا ينهاكم الله عن البرّ والعدل مع الكفار الذين لم يقاتلوكم بسبب دينكم ، ولم يخرجوكم من دياركم ، ولم يعاونوا على إخراجكم أن تحسنوا إليهم في معاملاتهم ، وتكرموهم وتمنحوهم صلتكم ، وتعدلوا بينهم ، إن الله يحبّ أهل البرّ والتواصل والحق والعدل .
جاء في التفسير الكبير للرازي ما يأتي :
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في خزاعة ، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا فرخّص الله في برّهم والإحسان إليهم .
وأخرج الشيخان ، وأحمد ، عن أسماء بنت أبي بكر ، أنها قالت : قدمت أمي – وهي مشركة – في عهد قريش حين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم – تعني في صلح الحديبية - فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم ، صلي أمك " ، فأنزل الله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } . xi
وجاء في الحديث الصحيح : " المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذي يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " . والعبرة هنا أيضا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
أن تبروهم : أن تحسنوا إليهم بكل خير . البر : كلمة تجمع معاني الخير والإحسان .
في هذه الآية الكريمة يضعُ الله لنا قاعدةً عظيمة ، ويبيّن أن دِينَ الإسلام دينُ سلام ومحبة وإخاء ، فيقول : من عاداكم فعادُوه وقاتِلوه ، أما الذين سالموكم ولم يقاتلوكم ، ولم يخرجوكم من دياركم ، فعليكم أن تسالِموهم وتكرموهم ، وتحسِنوا إليهم ، وتعدِلوا كل العدل في معاملتكم معهم ، { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } العادلين .
فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا مفسدة{[1056]} كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } .
ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ، { وتقسطوا إليهم } تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ، { إن الله يحب المقسطين } قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص الله في برهم . وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها بالمدينة بهدايا ، ضباباً وأقطاً وسمناً ، وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حاتم عن هشام ابن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " صليها " . وروي عن ابن عيينة قال : فأنزل الله فيها ، { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } .
ولما تم الوعظ والتأسية وتطبيب النفوس بالترجئة ، وكان وصف{[64574]} الكفار بالإخراج لهم من ديارهم يحتمل أن يكون بالقوة فيعم{[64575]} ، ويحتمل أن يكون بالفعل فيخص أهل مكة أو من باشر الأذى الذي تسبب عنه الخروج منهم ، بين ذلك بقوله مؤذناً بالإشارة إلى الاقتصاد في الولاية والعداوة كما قال صلى الله عليه وسلم{[64576]} : " أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما{[64577]} " { لا ينهاكم الله } أي الذي اختص بالجلال والإكرام { عن الذين لم يقاتلوكم } أي بالفعل { في الدين } أي بحيث تكونون مظروفين له{[64578]} ليس شيئاً من أحوالهم خارجاً عنه ، فأخرج ذلك القتال{[64579]} بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين ، وأخرج من لم يقاتل أصلاً كخزاعة والنساء ، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان إليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران .
ولما كان الذين لم يقاتلوا لذلك{[64580]} ربما كانوا قد ساعدوا على الإخراج قال : { ولم يخرجوكم } وقيد بقوله : { من دياركم } ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلاً من { الدين } : { أن } أي لا ينهاكم عن أن { تبروهم } بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة { وتقسطوا } أي تعدلوا العدل{[64581]} الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور ، وبين أن{[64582]} المعنى : موصلين لذلك الإقساط { إليهم } إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال ، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم{[64583]} فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق ، { إن الله } أي{[64584]} الذي له الكمال كله { يحب } أي يفعل فعل المحب مع { المقسطين * } أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل .