{ أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا ءاباؤهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما }
أدعوهم لآبائهم : انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم . .
فيما أخطأتم به : فيما فعلتموه مخطئين جاهلين قبل النهي .
تعمدت قلوبكم : قصدته عمدا بعد النهي عنه .
انسبوا هؤلاء الأدعياء إلى آبائهم الحقيقيين فذلك أعدل عند الله وأفضل في نسب من كان معروفا نسبه إلى أبيه وكان زيد بن حارثة يسمى زيد بن محمد فأصبح يسمى زيد بن حارثة أما من لم يكن معروف النسب فيقال له يا أخي في الدين أو يا مولاي بمعنى يا صديقي أو يا نصيري .
أمر الله برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم عوضا عما فاتهم من النسب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة " أنت أخونا ومولانا " 6 وقال ابن عمر ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت : ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . . . . 7 أخرجه البخاري .
وقيل لسالم بعد نزول الآية : مولى حذيفة وكان تبناه من قبل ، وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن أبي ذر ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر . 8
قال ابن كثير : هذا تشبيه وتهديد ووعيد أكيد في التبري من النسب المعلوم .
{ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به . . . } ليس عليكم ذنب فيما فعلتموه من ذلك مخطئين قبل النهي أو بعده نسيانا أو سبق لسان .
{ ولكن ما تعمدت قلوبكم . . . } ولكن الذنب والإثم لمن تعمد إلحاق الابن بغير أبيه فتلك معصية موجبة للعقاب ولا إثم ولا تحريم فيما غلب عليه اسم التبني كالمقداد بن عمرو فإنه غلب عليه نسب التبني فيقال له : المقداد بن الأسود والأسود هو الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية فلما نزلت الآية قال المقداد أنا ابن عمرو ومع ذلك بقى الإطلاق عليه .
{ وكان الله غفورا رحيما . . . } وكان الله- وما زال- ساترا لذنب المخطئ والمتعمد إذا تابا رحيما بهما فلا يعاقبهما فمن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ وقبل توبة المسيء عمدا .
قال تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . . . ( البقرة : 286 ) وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل قد فعلت " . 9
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " . 10
وروى ابن ماجة عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . 11
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية : لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت دعاءه لغير أبيه .
وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل معه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ثم قال قد كنا نقرأ " ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " . 12
وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم " . 13
وقال في التفسير المنير : هناك فرق بين التبني المنهي عنه والاستلحاق الذي أباحه الإسلام فالتبني هو ادعاء الولد مع القطع بأنه ليس ابنه واما الاستلحاق الشرعي فهو أن يعلم المستلحق أن المستلحق ابنه أو يظن ذلك ظنا قويا بسبب وجود زواج سابق غير معلن . 14
الأولى- قوله تعالى : " ادعوهم لآبائهم " نزلت في زيد بن حارثة ، على ما تقدم بيانه . وفي قول ابن عمر : ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد ، دليل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية والإسلام ، يتوارث به ويتناصر ، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله . " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " أي أعدل . فرفع الله حكم التبني ومنع من إطلاق لفظه ، وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا . فيقال : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه ، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان . وقال النحاس : هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني ، وهو من نسخ السنة بالقرآن ، فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف ، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه ، فإن لم يكن له ولاء معروف قال له يا أخي ؛ يعني في الدين ، قال الله تعالى : " إنما المؤمنون إخوة " {[12702]} [ الحجرات : 10 ] .
الثانية- لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني فإن كان على جهة الخطأ ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة ؛ لقوله تعالى " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم " وكذلك لو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس . قاله قتادة . ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني ، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود ، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به . فلما نزلت الآية قال المقداد : أنا ابن عمرو ، ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه . ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِقَ ذلك عليه وإن كان متعمدا . وكذلك سالم مولى أبي حذيفة ، كان يدعى لأبي حذيفة . وغير هؤلاء ممن تبني وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه . وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة ، فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد ، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى : " ولكن ما تعمدت قلوبكم " أي فعليكم الجناح . والله أعلم . ولذلك قال بعده : " وكان الله غفورا رحيما " أي " غفورا " للعمد ، " رحيما " برفع إثم الخطأ .
الثالثة- وقد قيل : إن قول الله تبارك وتعالى : " وليس عليكم جناح فيما أخطأتم " مجمل ، أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم ، وكانت فتيا عطاء وكثير من العلماء . على هذا إذا حلف رجل ألا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه ، فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زيوفا أنه لا شيء عليه . وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث ؛ لأنه لم يتعمد ذلك . و " ما " في موضع خفض ردا على " ما " التي مع " أخطأتم " . ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ . والتقدير : ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم . قال قتادة وغيره : من نسب رجلا إلى غير أبيه ، وهو يرى أنه أبوه ، خطأ{[12703]} فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح . وقيل : هو أن يقول له في المخاطبة : يا بني ، على غير تَبَنٍّ .
الرابعة- قوله{[12704]} تعالى : " ذلكم قولكم بأفواهكم " " بأفواهكم " تأكيد لبطلان القول ، أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود ، إنما هو قول لساني فقط . وهذا كما تقول : أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تريد بذلك المبرة . وهذا كثير . وقد تقدم هذا المعنى في غير موضع{[12705]} . " والله يقول الحق " " الحق " نعت لمصدر محذوف ، أي يقول القول الحق . " وهو يهدي السبيل " معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر .
الخامسة- قوله تعالى : " الأدعياء جمع دعي وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه أو يدعي غير أبيه والمصدر الدِّعوة بالكسر فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مولى وأخا في الدين وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية ، وقال أنا ممن لا يعرف أبوه ، فأنا أخوكم في الدين ومولاكم . قال الراوي عنه : ولو علم - والله - أن أباه حمارا لانتمى إليه . ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث .
السادسة- روي في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة كلاهما قال سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا{[12706]} صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) . وفي حديث أبي ذر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ) .
ولما كان كأنه قيل : فما تقول ؟ اهدنا إلى سبيل الحق في ذلك ، أرشد إلى أمر التبني إشارة إلى أنه هو المقصود في هذه السورة لما يأتي بعد من آثاره التي هي المقصودة{[55046]} بالذات بقوله : { ادعوهم } أي الأدعياء { لآبائهم } أي إن علموا ولداً قالوا : زيد بن حارثة ؛ ثم علله بقوله : { هو } أي هذا الدعاء { أقسط } أي أقرب إلى العدل من التبني وإن كان إنما هو لمزيد الشفقة على المتبني والإحسان إليه { عند الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال ، فلا ينبغي أن يفعل في ملكه إلا ما هو أقرب إلى الكمال ، وفي هذا بالنسبة إلى ما مضى بعض التنفيس عنهم ، وإشارة إلى أن ذلك التغليظ بالنسبة إلى مجموع القولين المتقدمين .
ولما كانوا قد يكونون{[55047]} مجهولين ، تسبب عنه قوله : { فإن لم تعلموا آباءهم } لجهل أصلي{[55048]} أو طارئ { فإخوانكم في الدين } إن كانوا دخلوا في دينكم { ومواليكم } أي أرقاؤكم مع بقاء الرق أو مع العتق على كلتا الحالتين ، ولذا قالوا : سالم مولى أبي حذيفة . ولما نزل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام " - أخرجه الشيخان{[55049]} عن سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما .
ولما كانت عادتهم الخوف مما سبق من أحوالهم على النهي لشدة ورعهم ، أخبرهم أنه تعالى أسقط عنهم ذلك لكونه خطأ ، وساقه على وجه يعم ما بعد النهي أيضاً{[55050]} فقال : { وليس عليكم جناح } أي إثم وميل واعوجاج ، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه ، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً ، ولكنه عفا عنه فقال : { فيما أخطأتم به } أي من الدعاء بالبنوة والمظاهرة أو في شيء قبل النهي أو بعده ، ودل قوله : { ولكن ما } أي الإثم فيما { تعمدت قلوبكم } على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان أو سبق اللسان ، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمده{[55051]} بعد البيان الشافي{[55052]} إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة ، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينه المتعمد .
ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدمه ، عم سبحانه بقوله : { وكان الله } أي لكونه لا أعظم منه ولا{[55053]} أكرم منه { غفوراً رحيماً * } أي من صفته الستر البليغ على المذنب التائب ، والهداية العظمية للضال الآئب ، والإكرام بإيتاء الرغائب .