لولا فصلت آياته : هلا بُينت بلسان نفقهه .
أأعجمي وعربي : أيصح أن يأتينا كتاب أعجمي والمخاطب به عربي ، والعرب يقولون عمن يخالف لغتهم : أعجمي .
في آذانهم وقر : صم فلا يسمعونه .
وهو عليهم عمى : فلا يبصرون هداه .
أولئك ينادون من مكان بعيد : هؤلاء كأنما ينادون من مكان بعيد فلا يسمعون لبعده ، فاختلف فيه بالتصديق والتكذيب .
44-{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى وأولئك ينادون من مكان بعيد } .
دخل القرآن على المشركين من كل باب ، وحاكمهم إلى الحسّ ، وقص عليهم القصص ، ولفت أنظارهم إلى الكون وجماله ، وشخّص القيامة وأهوالها كأنها حاضرة أمامهم ، ومع ذلك قالوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . . . } ( فصلت : 5 ) . فنحن لا نفقه القرآن ولا نسمع إليه ، ولا ننظر في أدلته .
وهنا يقول لهم القرآن : لو كان القرآن بلغة العجم – أي : ليس بلغة العرب – لقلتم : هلا فُسّرت آياته ، ووُضّحت كلماته بلغة عربية ، أيجوز أن ينزل قرآن أعجمي على رسول عربي ، والمرسل إليهم عرب ؟
والمقصود : لو كان أعجميا لجاز أن تقولوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب . . . } ( فصلت : 5 ) ، أما والقرآن عربي مبين ، فالحجاب سببه انشغال قلوبكم بالدنيا ، وإعراضكم عن الهدى ، وانصرافكم عن الرسالة النافعة .
{ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء . . . } .
قل للمؤمنين مصدر هداية لأنفسهم ، وشفاء لأسقامهم ، حيث يأخذ بأيديهم إلى الإيمان ويزيدهم إيمانا إلى إيمانهم ، ويقينا بالله إلى يقينهم ، ويعلمهم ما ينفعهم ، ويزيدهم علما ومعرفة .
{ والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى . . . } .
أما الكافر الذي أصمّ أذنه عن سماع آيات الله ، فهو لذلك لا يسمع ، وإذا سمع لا ينصت ، وإذا أنصت ظاهرا انصرف بقلبه باطنا ، فكأنه سمع بأذنه ولم يهتد بقلبه ، لقد عميت قلوبهم عن هداية القرآن ، لذلك لم تبصر عيونهم جمال أسلوبه ، ولا فصاحة كلماته ، ولا رونقه وبيانه وهدايته ، كأنّ القرآن يناديهم من مكان بعيد ، لا يسمعونه ولا يفقهونه ولا يتبينون مراده .
قوله تعالى : { أولئك ينادون من مكان بعيد } .
يقال ذلك لمن لا يفهم من التمثيل ، وحكى اهل اللغة أنه يقال للذي يفهم : أنت تسمع من قريب ، ويقال للذي لا يفهم : أنت تنادَى من بعيد ، أي كأنه ينادَى بعيد منه ، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه .
ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم ، من مكان بعيد ، فيكون ذلك أشدّ لتوبيخهم وفضيحتهم . ا ه .
ومن يتدبّر هذه الآية الكريمة يشاهد مصداقها في كل زمان ومكان ، فهناك من ينتفع بهذا القرآن قراءة وسماعا وتطبيقا ، وهناك من يستمع إلى هذا القرآن فلا يزيده السماع إلا إعراضا وبعدا وصمما وتشاغلا .
قال تعالى : { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } . ( التوبة : 125 ) .
{ 44 } { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ }
يخبر تعالى عن فضله وكرمه ، حيث أنزل كتابا عربيًا ، على الرسول العربي ، بلسان قومه ، ليبين لهم ، وهذا مما يوجب لهم زيادة الاغتناء به ، والتلقي له والتسليم ، وأنه لو جعله قرآنا أعجميًا ، بلغة غير العرب ، لاعترض ، المكذبون وقالوا : { لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : هلا بينت آياته ، ووضحت وفسرت . { أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي : كيف يكون محمد عربيًا ، والكتاب أعجمي ؟ هذا لا يكون فنفى الله تعالى كل أمر ، يكون فيه شبهة لأهل الباطل ، عن كتابه ، ووصفه بكل وصف ، يوجب لهم الانقياد ، ولكن المؤمنون الموفقون ، انتفعوا به ، وارتفعوا ، وغيرهم بالعكس من أحوالهم .
ولهذا قال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } أي : يهديهم لطريق الرشد والصراط المستقيم ، ويعلمهم من العلوم النافعة ، ما به تحصل الهداية التامة وشفاء لهم من الأسقام البدنية ، والأسقام القلبية ، لأنه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ، ويحث على التوبة النصوح ، التي تغسل الذنوب وتشفي القلب .
{ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } بالقرآن { فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن استماعه وإعراض ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي : لا يبصرون به رشدًا ، ولا يهتدون به ، ولا يزيدهم إلا ضلالاً فإنهم إذا ردوا الحق ، ازدادوا عمى إلى عماهم ، وغيًّا إلى غيَّهم .
{ أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } أي : ينادون إلى الإيمان ، ويدعون إليه ، فلا يستجيبون ، بمنزلة الذي ينادي ، وهو في مكان بعيد ، لا يسمع داعيًا ولا يجيب مناديًا . والمقصود : أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، لا ينتفعون بهداه ، ولا يبصرون بنوره ، ولا يستفيدون منه خيرًا ، لأنهم سدوا على أنفسهم أبواب الهدى ، بإعراضهم وكفرهم .
قوله تعالى : { ولو جعلناه } أي : جعلنا هذا الكتاب الذي تقرأه على الناس ، { قرآناً أعجميا } بغير لغة العرب ، { لقالوا لولا فصلت آياته } هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها ، { أأعجمي وعربي } يعني : أكتاب أعجمي ورسول عربي ؟ وهذا استفهام على وجه الإنكار ، أي : أنهم كانوا يقولون : المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي . قال مقاتل : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار ، غلام عامر بن الحضرمي ، وكان يهودياً أعجمياً ، يعني أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده ، وقال : إنك تعلم محمداً ، فقال يسار : هو يعلمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { قل } يا محمد ، { هو } يعني القرآن ، { للذين آمنوا هدىً وشفاء } لما في القلوب ، وقيل : شفاء من الأوجاع . { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمىً } قال قتادة : عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به ، { أولئك ينادون من مكان بعيد } أي : أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم ، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون .
{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته } الأعجمي الذي لا يفصح ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من العجم والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح ، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن ، فالمعنى : أنه لو كان أعجميا لطعنوا فيه وقالوا هلا كان مبينا فظهر أنهم يطعنون فيه على أي : وجه كان .
{ أأعجمي وعربي } هذا من تمام كلامهم والهمزة للإنكار ، والمعنى : أنه لو كان القرآن أعجميا لقالوا : قرآن أعجمي ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقيل : إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية ، كسجين وإستبرق فقالوا : قرآن أعجمي وعربي أي : مختلط من كلام العرب والعجم ، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين .
{ في آذانهم وقر } عبارة عن إعراضهم عن القرآن فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك { وهو عليهم عمى } عبارة عن قلة فهمهم له .
{ أولئك ينادون من مكان بعيد } فيه قولان :
أحدهما : عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادي من مكان بعيد فهو لا يسمع الصوت ولا يفقه ما يقال .
والثاني : أنه حقيقة في يوم القيامة ، أي : ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم ، والأول أليق بالكنايات التي قبلها .