خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون .
يحشر هؤلاء المشركون في حالة من الذلة والمهانة ، منكسرة أبصارهم ، تغشاهم المهانة والندامة والمذلّة والحسرة ، وقد كانوا يدعون إلى طاعة الله وشرعه في الدنيا ، وهم سالمون أصحاء معافون متمكنون من السجود فلا يستجيبون كبرا وإعراضا وأنفة من الاستجابة للحق ، لذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة .
روى أنه كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه على عكس السجود ، بخلاف ما عليه المؤمن .
أخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما ، عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا )xi .
وقد أورد الحافظ السيوطي في كتابه ( الدر المنثور في التفسير بالمأثور ) طائفة من روايات هذا الحديث في الصحيحين وفي كتب السنن .
وأنكر ذلك سعيد بن جبير ، فقد سئل عن الآية : يوم يكشف عن ساق . . . فغضب غضبا شديدا ، وقال : إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه ، وإنما يكشف عن الأمر الشديد ، وعليه يحمل ما في الحديث ، وقد أورد ذلك الآلوسي في تفسيره ، )جزء 29 ، ص 35 ) .
وأرى أن الحديث صحيح ، وارد في الصحيحين وفي كتب السنن ، والسلف يقولون في المتشابه من الآيات والأحاديث : نؤمن بها كما وردت ، ونفوّض المراد منها إلى الله تعالى .
والخلف يقولون : يجب تأويلها على معان تليق بذات الله تعالى .
وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول : ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ، واضربوا بقولي عرض الحائط ) .
ومن إعجاز القرآن الكريم أن الآية قد يكون لها معنى ، وتشير إلى معنى ، وتستتبع معنى .
والآية الكريمة : يوم يكشف عن ساق . . . تحتمل المعنى المجازي ، ويمكن فهمها على المعنى الحقيقي ، ولنا أن نأخذ برأي السلف فنقول : نؤمن بها كما وردت ونفوّض المراد منها إلى الله تعالى ، ولنا أن نأخذ برأي الخلف في أن كشف الساق كناية عن الشّدة والهول ، والله أعلم .
وهذا الجزاء من جنس عملهم ، فإنهم كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون ، لا علة فيهم ، فيستكبرون عن ذلك ويأبون ، فلا تسأل يومئذ عن حالهم وسوء مآلهم ، فإن الله قد سخط عليهم ، وحقت عليهم كلمة العذاب ، وتقطعت أسبابهم ، ولم تنفعهم الندامة ولا الاعتذار يوم القيامة ، ففي هذا ما يزعج القلوب عن المقام على المعاصي ، و[ يوجب ] التدارك مدة الإمكان . ولهذا قال تعالى{ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ }
{ خاشعةً أبصارهم } وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم من السجود ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين ، { ترهقهم ذلة } يغشاهم ذل الندامة والحسرة ، { وقد كانوا يدعون إلى السجود } قال إبراهيم التيمي : أي إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون ، { وهم سالمون } أصحاء فلا يأتونه ، قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا عن الذين يتخلفون عن الجماعات .
ولما كان ربما ظن ظان أن المانع لهم{[67687]} الكبر كما في هذه الدنيا ، قال مبيناً لنفي الكبر في مثل هذا اليوم العظيم { خاشعة } أي مخبتة متواضعة { أبصارهم } لأن ما في القلب يعرف في العين ، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أضوأ من الشمس ، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة .
ولما كان الخاشع لذلك قد يكون خشوعه لخير عنده حمله على ذلك مع{[67688]} العز قال : { ترهقهم } أي تغشاهم وتقهرهم { ذلة } أي عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها سبحانه وتعالى ليتقربوا بها إليه في دار العمل في التمتع بما يبعد منه .
ولما دلت هذه العبارة مطابقة لما ورد في الحديث الصحيح على أن من كان في قلبه مرض في الدنيا يصير ظهره طبقاً واحداً{[67689]} فقارة واحدة فيعالج السجود فيصير كلما أراده انقلب لقفاه ، عجب منهم في ملازمة الظلم الذي هو إيقاع الشيء{[67690]} في غير موقعه فقال : { وقد } أي والحال أنهم { كانوا } أي دائماً بالخطاب الثابت { يدعون } في الدنيا من كل داع يدعو إلينا { إلى السجود وهم } أي فيأبونه{[67691]} والحال أنهم { سالمون * } أي{[67692]} فهم{[67693]} مستطيعون ، ليس في أعضائهم ما يمنع من ذلك ، وإنما يمنعهم منه الشماخة والكبر ، فالآية من الاحتباك{[67694]} : ذكر عدم الاستطاعة أولاً دال على حذف الاستطاعة ثانياً ، وذكر السلامة ثانياً دال على حذف عدم السلامة أولاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.