{ إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين }
إنا نحن نحي الموتى : نبعثهم بعد الموت .
ما قدموا : ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة .
وآثارهم : ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت ، كالعلم والكتاب والمسجد والمستشفى والمدرسة أو من السيئات كنشر البدع والمظالم والأضرار والضلالات بين الناس .
إمام مبين : أصل يؤتم به أو اللوح المحفوظ ، أو صحائف الأعمال .
إنا قادرون على إحياء الموتى ، وبعثهم من قبورهم للحساب والجزاء وقد سجلنا لجميع الموتى مؤمنين أو كافرين ما قدموه وأسلفوه من عمل صالح أو سيء وما تركوه من أثر صالح أو خبيث فنجزيهم على كل عمل قدموه في حياتهم أو تركوا أثره بعد وفاتهم نجازيهم بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وقد ضبطنا كل شيء وأحصيناه في سجل مضبوط .
لقد كان كفار مكة ينكرون البعث ويقولون : ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر والسور مكية تواجه كفار مكة ، وتخبرهم أن البعث حق وأن الجزاء من جنس العمل ، واتلله سيحصي على كل إنسان ما قدمه وما أخره ما قدمه من عمل صالح كالصلاة والزكاة والصدقة ، وما أخره وما خلفه بعد موته من وصية نافعة أو بناء ملجأ أو مدرسة أو مستشفى ، أو كتاب علم أو تفسير قرآن أو علم تطبيقي يفيد الأمة ويأخذ بيدها إلى التقدم والقوة ، كل ذلك يسجله الله ويحاسب عليه كما يسجل على الكافرين والفاسقين والعابثين ما قدموا من ضلالات ورذائل وما أخروا من عمل على نشر الرذيلة والسوء في الملاهي أو الكتب الخليعة أو الأفكار الضالة .
{ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . . . } وكل عمل كائنا ما كان قليلا أو كبيرا عظيما أو صغيرا نافعا أو ضارا بيناه وحفظناه في إمام مبين وأصل عظيم الشأن مظهرا لما كان وما سيكون وهو اللوح المحفوظ الذي يؤتم به ويقتدى ويتبع ولا يخالف .
قال تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . ( الإسراء : 13-14 ) .
وقال عز شأنه : علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى . ( طه : 52 ) .
وقال سبحانه : وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر . ( القمر : 52-53 ) .
وقال سبحانه : إنا كنا نستنتج ما كنتم تعملون . ( الجاثية : 39 ) .
وقال تعالى : أحصاه الله ونسوه . . . ( المجادلة : 6 ) .
وذهب بعض المفسرين إلى أنه يمكن تفسير هذه الآية بأن الله تعالى يحيي قلوب الكافرين ويهديهم إلى الإيمان كما صنع يوم فتح مكة ، حين دخل الناس في دين الله أفواجا وحين اتسع صدر الإسلام فعفا عن كفار مكة وتحول كفار الأمس إلى مؤمنين مجاهدين يفتحون فارس والروم ومصر وشمال أفريقيا حتى دانت ثلاثة أرباع المعمور بالإسلام خلال مائة عام من الرسالة المحمدية ونطق باللغة العربية كثيرون ممن دخلوا في الإسلام وكانت الثقافة الإسلامية واللغة العربية والقرآن الكريم وعلومه التي نشأت حوله موردا صافيا للأمم التي دخلت في الإسلام وساعد على ذلك أن الإسلام رسالة عامة للعرب والعجم ، والإنس والجن والناس أجمعين .
قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . ( الأنبياء : 107 ) .
{ إنا نحن نحيي الموتى . . . } أي : يوم القيامة ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة ، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق كما قال الله تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون . ( الحديد : 17 ) .
وقوله تعالى : { ونكتب ما قدموا } أي : من الأعمال .
وفي قوله تعالى : { وءاثارهم } : قولان : أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي أثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا إن خيرا فخير وإن شرا فشر .
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : فيما أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها واجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا " . 6
وهكذا الحديث الآخر الذي أخرجه مسلم عن أبيس هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده " . 7
وقال مجاهد في قوله تعالى : ونكتب ما قدموا وءاثارهم . ما أورثوا من الضلالة .
وقال سعيد بن جبير وءاثارهم يعني : ما أثروا .
يقول : ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم وهذا القول هو اختيار البغوي .
والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية قال مجاهد : ما قدموا أعمالهم وءاثارهم قال : خطاهم بأرجلهم .
وقال قتادة : لو كان الله عز وجل مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفى الرياح من هذه الآثار ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل .
وقد وردت في هذا المعنى أحاديث منها ما أخرجه الإمام أحمد ، والإمام مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد " قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال صلى الله عليه وسلم " يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم " . 8
أي : ألزموا دياركم حتى تكتب آثار خطواتكم إلى المسجد .
{ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أي وجميع الكائنات مكتوبة في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ .
{ إمام مبين } ههنا هو أم الكتاب : قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم . ( الإسراء : 71 ) .
أي : بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر كما قال عز وجل : ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء . . ( الزمر : 69 ) .
وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا . ( الكهف : 49 ) 9
{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى } أي : نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال ، { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا } من الخير والشر ، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم ، { وَآثَارَهُمْ } وهي آثار الخير وآثار الشر ، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، فكل خير عمل به أحد من الناس ، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه ، أو أمره بالمعروف ، أو نهيه عن المنكر ، أو علم أودعه عند المتعلمين ، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته ، أو عمل خيرا ، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان ، فاقتدى به غيره ، أو عمل مسجدا ، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس ، وما أشبه ذلك ، فإنها من آثاره التي تكتب له ، وكذلك عمل الشر .
ولهذا : { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } وهذا الموضع ، يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى اللّه والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك ، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه ، وأنه أسفل الخليقة ، وأشدهم جرما ، وأعظمهم إثما .
{ وَكُلَّ شَيْءٍ } من الأعمال والنيات وغيرها { أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } أي : كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب ، التي تكون بأيدي الملائكة ، وهو اللوح المحفوظ .
ولما بين الأصل الثاني هو الرسالة وأتبعها ثمرتها المختومة بالبشارة ، وكان الأصل الثالث في الإيمان - وهو البعث - سبباً عظيماً في الترقية إلى اعتقاد الوحدانية التي هي الأصل الأول ، وكان أكثر الخائفين منه سبحانه مقتراً عليهم في دنياهم منغضة عليهم حياتهم ، علل هذه البشارة إعلاماً بأن هذا الأجر في هذه الدار بالملابس الباطنة الفاخرة من المعارف والسكينة والبركات والطمأنينة ، وبعد البعث بالملابس الطاهرة الزاهرة المسببة عن الملابس الدنيوية الباطنة الخفية من غير أهلها ، بشارة لهم ونذارة للقسم الذي قبلهم بقوله ، مقدماً للبعث لما ذكر من فائدته ، لافتاً القول إلى مظهر العظمة إيذاناً بعظمة هذه المقاصد وبأنه لا يحمي لهؤلاء الخلص مع قلتهم ومباينتهم للأولين مع كثرتهم إلا من له العظمة الباهرة : { إنا نحن } أي بما لنا من العظمة التي لا تضاهى { نحيي } أي بحسب التدريج الآن وجملة في الساعة { الموتى } أي كلهم حساً بالبعث ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلم الجهل { ونكتب } أي من صالح وغيره شيئاً فشيئاً بعده فلا يتعدى التفصيل شيئاً في ذلك الإجمال { ما قدموا } من جميع أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم جملة عند نفخ الروح { وآثارهم } أي سننهم التي تبقى من بعدهم صالحة كانت أو غير صالحة ، ونجازي كلاً بما يستحق في الدار الآخرة التي الجزاء فيها لا ينقطع ، فلا أكرم منه إذا كان كريماً .
ولما كان ذلك ربما أوهم الاقتصار على كتابة ما ذكر من أحوال الآدميين أو الحاجة إلى الكتابة ، دل على قدرته على ما لا تمكن القدرة عليه لأحد غيره في أقل قليل مما ذكر ، فكيف بما فوقه ، فقال ناصباً عطفاً لفعليه على فعليه وهي " تكتب " : { وكل شيء } أي من أمر الأحياء وغيرهم { أحصيناه } أي قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وكتبناه { في إمام } أي كتاب هو أهل لأن يقصد { مبين * } أي لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال على أحد أراد علمه منه ، فلله هذه القدرة الباهرة والعظمة الظاهرة والعزة القاهرة ، فالآية من الاحتباك : دل فعل الإحصاء على مصدره وذكر الإمام على فعل الكتابة .