{ لئن لم تنته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا( 60 ) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا( 61 ) سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا( 62 ) }
المنافقون : الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .
مرض : ضعف إيمان أو فسوق وعصيان .
المرجفون : مروجو الأخبار الكاذبة ، ليبعثوا الرجفة والزلزلة في قلوب المؤمنين بأكاذيبهم .
لنغرينك بهم : لنحرضنك ونسلطنك عليهم .
{ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } .
كان المنافقون يشيعون الأراجيف عن المسلمين فيقولون مثلا إن السرية الفلانية هزمت أو قتل عدد منها يبغون من وراء ذلك بث الذعر والخوف في نفس المؤمنين فهددهم الله بالقتال والنفي واللعن والطرد .
ومعنى الآية : أقسم لئن استمر المنافقون في إيذاء المؤمنين واستمر رواد الزنا في تتبع المؤمنات واستمر أهل الإرجاف في إشاعة الأخبار الكاذبة عن المؤمنين وإشاعة الهزيمة عنهم لنسلطنك عليهم يا محمد فتعاقبهم بالعقاب الرادع ثم لا يقيمون معك في المدينة إلا وقتا قليلا ريثما يتم إخراجهم وطردهم أو قتلهم وقد أفاد بعض المفسرين أن الآية تشير إلى ثلاث طوائف . المنافقون الذي أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام .
{ والذين في قلوبهم مرض . . . } أي شهوة الزنا .
{ والمرجفون في المدينة . . . } الذي يتبعون المرأة حتى يغلبوها على عفتها ويغتصبوها عنوة .
وهؤلاء الطوائف يستحقون العقوبة الرادعة ، مثل قتل الزناة الذين يغتصبون المرأة فيكون قتلهم من باب السياسة الشرعية ، رعاية لحق المجتمع في الأمن والالتزام . 71
وذهب أغلب المفسرين إلى أن الآية تشير إلى فئة واحدة تتصف بثلاث صفات هي النفاق والغش والخديعة والإرجاف في المدينة وهو إشاعة السوء عن المؤمنين .
والآية تهديد للمنافقين وإضرابهم من اليهود بأن الله سيمكن رسوله من طردهم وإخراجهم عقوبة لسوء فعالهم .
وأما من جهة أهل الشر فقد توعدهم بقوله : { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : مرض شك أو شهوة { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } أي : المخوفون المرهبون الأعداء ، المحدثون{[724]} بكثرتهم وقوتهم ، وضعف المسلمين .
ولم يذكر المعمول الذي ينتهون عنه ، ليعم ذلك ، كل ما توحي به أنفسهم إليهم ، وتوسوس به ، وتدعو إليه من الشر ، من التعريض بسب الإسلام وأهله ، والإرجاف بالمسلمين ، وتوهين قواهم ، والتعرض للمؤمنات بالسوء والفاحشة ، وغير ذلك من المعاصي الصادرة ، من أمثال هؤلاء .
{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي : نأمرك بعقوبتهم وقتالهم ، ونسلطك عليهم ، ثم إذا فعلنا ذلك ، لا طاقة لهم بك ، وليس لهم قوة ولا امتناع ، ولهذا قال : { ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا } أي : لا يجاورونك في المدينة إلا قليلاً ، بأن تقتلهم أو تنفيهم .
وهذا فيه دليل ، لنفي أهل الشر ، الذين يتضرر بإقامتهم بين أظهر المسلمين ، فإن ذلك أحسم للشر ، وأبعد منه ، ويكونون { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لئن لم ينته أهل النفاق، الذين يستسرّون الكفر، ويظهرون الإيمان، "وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ "يعني: ريبة من شهوة الزنا وحبّ الفجور...
وقوله: "وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ" يقول: وأهل الإرجاف في المدينة بالكذب والباطل.
وكان إرجافهم فيما ذُكر... عن قتادة... الإرجاف: الكذب الذي كان نافقه أهل النفاق، وكانوا يقولون: أتاكم عدد وعدّة. وذكر لنا أن المنافقين أرادوا أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق، فأوعدهم الله بهذه الآية، قوله: "لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ..." فلما أوعدهم الله بهذه الآية كتموا ذلك وأسرّوه...
وقوله: "لَنُغْرِيَنّكَ بِهِمْ" يقول: لنسلطنك عليهم ولنحرّشنك بهم...
قوله: "ثُمّ لا يُجاوِرونكَ فِيها إلاّ قَلِيلاً" يقول: ثم لننفينهم عن مدينتك فلا يسكنون معك فيها إلا قليلاً من المدة والأجل، حتى تنفيهم عنها، فنخرجهم منها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وذلك أنّ ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قُتلوا وهزموا، وكانوا يقولون: قد أتاكم العدوّ ونحوها.
وقال الكلبي: كانوا يحبّون أنْ يفشوا الأخبار، وأنْ تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} فيهم ثلاثة أقاويل:
الثالث: أن الإرجاف التماس الفتنة، قاله ابن عباس، وسميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وإفاضة الناس فيها.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فيه دليل على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الذى فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32]. {والمرجفون} ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا، إذا أخبر به على غير حقيقة، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء: لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوءهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها {إِلا} زمناً {قَلِيلاً} ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم، فسمى ذلك إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز.
الاستثناء فيه لطيفة، وهي أن الله تعالى وعد النبي عليه السلام أنه يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده إظهارا لشوكته، ولو كان النفي بإرادة الله من غير واسطة النبي لأخلي المدينة عنهم في ألطف آن بقوله: كن فيكون، ولكن لما أراد الله أن يكون على يد النبي، لا يقع ذلك إلا بزمان وإن لطف فقال: {ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا} وهو أن يتهيؤوا ويتأهبوا للخروج.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
دل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ثم} للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول أعظم ما يصيبهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان المؤذون بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم، حذرهم بقوله مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عنهم: {لئن لم ينته} أي عن الأذى {المنافقون والذين في قلوبهم مرض} أي مقرب من النفاق حامل على المعاصي...
{لنغرينك بهم} بأن نحملك على أن تولع بهم بأن نأمرك بإهانتهم ونزيل الموانع من ذلك، ونثبت الأسباب الموصلة إليه حتى تصير لاصقاً بجميع أموالهم لصوق الشيء الذي يلحم بالغراء، فلا يقدروا على الانفكاك عن شيء مما تفعله بهم إلا بالبعد من المدينة بالموت أو الرحيل إلى غيرها، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري: لنسلطنك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يسلط الله عليهم نبيه، كما سلطه على اليهود من قبل، فيطهر منهم جو المدينة، ويطاردهم من الأرض؛ و يبيح دمهم فحيثما وجدوا أخذوا وقتلوا، كما جرت سنة الله فيمن قبلهم من اليهود على يد النبي [صلى الله عليه وسلم] وغير اليهود من المفسدين في الأرض في القرون الخالية، ومن هذا التهديد الحاسم ندرك مدى قوة المسلمين في المدينة بعد بني قريظة، ومدى سيطرة الدولة الإسلامية عليها، وانزواء المنافقين إلا فيما يدبرونه من كيد خفي، لا يقدرون على الظهور؛ إلا وهم مهددون خائفون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل، فهذه الأوصاف لأصناف من الناس، وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه "لنغرينك بهم "لا يساعد أن فيهم مؤمنين.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويستفاد من سياق الآية أنّ ثلاث فئات في المدينة كانت مشتغلة بأعمال التخريب والهدم، وكلّ منها كان يحقّق أهدافه بأسلوب خاصّ، فظهر ذلك كتيار ومخطّط جماعي، ولم تكن له صبغة فردية:
فالفئة الاُولى: هم «المنافقون» الذين كانوا يسعون لاقتلاع جذور الإسلام عبر مؤامرتهم ضدّه.
والثّانية: هم «الأراذل» الذين يعبّر عنه القرآن: (الذين في قلوبهم مرض) كما أنّ هذا التعبير قد ورد في الآية (32) من سورة الأحزاب في شأن من يتّبع أهواءه وشهواته (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض).
والفئة الثالثة: هم الذين كانوا يبثون الإشاعات في المدينة، وخاصّةً عندما كان النّبي (صلى الله عليه وآله) وجيش المسلمين يتّجهون إلى الغزوات، لإضعاف معنوياتهم، وكانوا ينشرون الأخبار الكاذبة عن هزيمة النّبي والمؤمنين، وهؤلاء هم «اليهود» برأي بعض المفسّرين.
ولما كان المؤذون{[56081]} بما مضى وغيره أهل النفاق ومن داناهم ، حذرهم بقوله مؤكداً دفعاً لظنهم دوام الحلم عنهم : { لئن لم ينته } أي عن الأذى { المنافقون } أي {[56082]}الذين يبطنون{[56083]} الكفر ويظهرون الإسلام { والذين في قلوبهم مرض } أي{[56084]} مقرب من النفاق حامل على المعاصي { والمرجفون في المدينة } وهم الذين يشيعون الأخبار المخيفة لأهل الإسلام التي تضطرب لها{[56085]} القلوب سواء كانوا من القسمين الأولين أم{[56086]} لا { لنغرينك بهم } بأن نحملك على أن تولع بهم{[56087]} بأن نأمرك بإهانتهم ونزيل الموانع من ذلك ، ونثبت الأسباب الموصلة إليه حتى تصير لاصقاً بجميع أموالهم لصوق الشيء الذي يلحم بالغراء فلا يقدروا على الانفكاك عن شيء مما تفعله بهم إلا بالبعد من المدينة بالموت أو الرحيل إلى غيرها ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري{[56088]} : لنسلطنك .
ولما كان نزوحهم عن المدينة مستبعداً عنهم جداً ، وكان أعظم رتبة في أذاهم من غيره ، لأن الإخراج من الأوطان من أعظم الهوان ، أشار إليه بأداة التراخي فقال : { ثم لا يجاورونك فيها } أي بعد محاولتك لهم { إلا قليلاً * } أي من الزمان بقدر ما يمكن لك المضارب فتعظم عليهم المصائب .