لولا : هلاّ ، والمراد هنا : التمنّي .
10- { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
أنفقوا وأخرجوا زكاة أموالكم وصدقاتكم ، وتصدّقوا من سائر ما رزقكم الله ، من المال والجاه والعلم ، وسائر أنواع المعروف ، حتى قالوا : ( حاجة الناس إليكم ، من نعم الله عليكم ) .
وفي الحديث الشريف : " ما من يوم إلا وينزل ملكان ، يقول الأول : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الثاني : اللهم أعط ممسكا تلفا " .
أعطوا الزكاة والصدقات ، وأنفقوا مما أعطاكم الله ورزقكم ، من قبل أن ينزل الموت بساحتكم ، ويرى الواحد منكم الموت رأي العين ، فيتمنى لو تأجّل موته حتى يأخذ فرصة أخرى في دار الدنيا ، ليتصدق من المال ، ويتعبد بالصلاة والصيام ، ويفعل الأفعال الصالحة ، ويتزوّد من سائر ضروب الخير والطاعة .
قال ابن عباس : تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل .
وقوله : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يدخل في هذا ، النفقات الواجبة ، من الزكاة والكفارات{[1109]} ونفقة الزوجات ، والمماليك ، ونحو ذلك ، والنفقات المستحبة ، كبذل المال في جميع المصالح ، وقال : { مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ } ليدل ذلك على أنه تعالى ، لم يكلف العباد من النفقة ، ما يعنتهم ويشق عليهم ، بل أمرهم بإخراج جزء{[1110]} مما رزقهم الله الذي يسره لهم{[1111]} ويسر لهم أسبابه .
فليشكروا الذي أعطاهم ، بمواساة إخوانهم المحتاجين ، وليبادروا بذلك ، الموت الذي إذا جاء ، لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرة من الخير ، ولهذا قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ } متحسرًا على ما فرط في وقت الإمكان ، سائلاً الرجعة التي هي محال : { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : لأتدارك ما فرطت فيه ، { فَأَصَّدَّقَ } من مالي ، ما به أنجو من العذاب ، وأستحق به جزيل الثواب ، { وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } بأداء المأمورات كلها ، واجتناب المنهيات ، ويدخل في هذا ، الحج وغيره .
ولما حذر من الإقبال على الدنيا ، رغب في بذلها مخالفة للمنافقين فقال : { وأنفقوا } أي ما أمرتم{[65591]} به من واجب أو مندوب ، وزاد في الترغيب بالرضى منهم باليسير مما هو{[65592]} كله له بقوله : { من ما رزقناكم } أي من عظمتنا وبلغ النهاية في ذلك بالرضا بفعل ما أمر به {[65593]}مع التوبة{[65594]} النصوح في زمن ما ولو قل بما أرشد إليه إثبات الجار ، فقال مرغباً {[65595]}في التأهب{[65596]} للرحيل والمبادرة لمباغتة الأجل ، محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة : { من قبل } وفك المصدر ليفيد " أن " مزيد القرب فقال{[65597]} : { أن يأتي } ولما كان تقديم المفعول كما تقدم في النساء أهول قال : { أحدكم الموت } أي{[65598]} برؤية دلائله وأماراته ، وكل لحظة مرت فهي من دلائله وأماراته . ولما كانت الشدائد تقتضي الإقبال{[65599]} على الله{[65600]} ، سبب عن ذلك بقوله : { فيقول } سائلاً في الرجعة ، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله : { رب{[65601]} لولا } أي هل{[65602]} لا ولم لا { أخرتني } أي أخرت موتي إمهالاً لي { إلى أجل } أي زمان ، وبين أن مراده استدراك ما فات ليس إلا بقوله : { قريب فأصدق } أي للتزود في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله ، قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء{[65603]} : قال بعض العارفين : إن ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة ، وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة مما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها ويتدارك تفريطه ، يقول : يا ملك الموت ! أخرني يوماً {[65604]}أعتذر فيه{[65605]} إلى ربي وأتوب وأتزود فيها صالحاً لنفسي ، فيقول{[65606]} : فنيت الساعات فلا ساعة ، فيغلق عليه باب التوبة فيتغرغر بروحه وتردد أنفاسه في شراسيفه ويتجرع غصة البأس عن التدارك وحسرة الندامة على تضييع العمر ، فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأهوال ، فإذا زهقت نفسه فإن كان{[65607]} سبقت له من{[65608]} الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد ، فذلك حسن الخاتمة ، وإن سبق له القضاء بالشقوة والعياذ بالله تعالى خرجت روحه على الشك والاضطراب ، وذلك سوء الخاتمة{[65609]} ، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين{[65610]} خطرين عظيمين : أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ريناً وطبعاً فلا يقبل المحو ، الثاني أن يعاجله{[65611]} المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ، فيأتي الله تعالى بقلب غير سليم ، والقلب أمانة الله عند عبده ، قال بعض العارفين : إن لله تعالى إلى عبده سرين على سبيل الإلهام : أحدهما إذا خرج من{[65612]} بطن أمه يقول له : عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً واستودعتك وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر كيف تلقاني ، والثاني عند خروج روحه يقول : عبدي ماذا صنعت في أمانتي عندك{[65613]} هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فألقاك على الوفاء أو أضعتها فألقاك{[65614]} بالمطالبة والعذاب .
ولعله أدغم تاء التفعل إشارة إلى أنه إذا أخر{[65615]} فعل ذلك على وجه الإخفاء ليكون أفضل ، أو يكون إدغامها اختصاراً لبلوغ الأمر إلى حد محوج إلى{[65616]} الإيجاز في القول كما طلب في الزمن ، ويؤيده قراءة الجماعة{[65617]} غير{[65618]} أبي عمرو { وأكن } بالجزم عطفاً على الجواب الذي هدى السياق إلى تقديره ، فإن حال هذا الذي{[65619]} أشرف هذا الإشراف يقتضي أن يكون أراد إن " أخرتني أتصدق " ولكنه حذفه لضيق المقام عنه واقتضاء الحال لحذفه ، وهو{[65620]} معنى ما حكاه سيبويه عن الخليل أن الجزم على توهم الشرط الذي دل{[65621]} عليه التمني على الموضع ، فإن الجازم غير موجود ، ومعنى ما قال غيره أن " لولا " لكونها تحضيضية متضمنة معنى الأمر ومعنى الشرط ، فكأنه قيل : أخرني ، فيكون جوابه العاري عن الفاء مجزوماً لفظاً والمقرون بها مجزوماً{[65622]} محلاً ف " اكن " عطف على المحل ، ونصب أبو عمرو عطفاً على اللفظ لأنه جواب التمني الذي دلت عليه " لولا " وإجماع المصاحف على حذف الواو لا يضره لأنه قال : إنها{[65623]} للاختصار ، وهو ظاهر ، وذلك للمناسبة بين اللفظ والخط والزمان والمراد ، ومن هنا تعرف جلالة القراء ومرادهم إن شاء الله تعالى بقولهم في الضابط المشهور وإن توافق رسم المصحف{[65624]} ولو احتمالاً { من الصالحين * } أي العريقين في هذا الوصف العظيم ،