تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

الغاية من بعثة الرسل

{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطْ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 25 ) }

المفردات :

أرسلنا رسلنا : أرسلنا الأنبياء إلى الأمم .

البينات : المعجزات والحجج .

الكتاب : أريد به الجنس ، أي : كتب الشرائع كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، والصحف .

الميزان : العدل .

القسط : الحق .

وأنزلنا الحديد : خلقناه ، وأخرجناه من المعادن .

بأس شديد : قوة نافعة متعددة ، تتخذ منه آلات الحرب والصناعات الثقيلة ، والمباني الضخمة ونحو ذلك .

منافع للناس : يدخل في صناعات كثيرة مفيدة للناس .

وليعلم الله : علم مشاهدة ووجود في الخارج .

من ينصره ورسله : من ينصر دينه وينصر رسله ، باستخدام الأسلحة وآلات الحرب من الحديد في مجاهدة الكفار .

بالغيب : ينصرونه ولا يبصرونه بعيونهم .

تمهيد :

أرسل الله الرسل ، وأنزل معهم كتب السماء ، وهي في جملتها كتاب واحد يحثّ على الفضائل ، وينهى عن الرذائل ، ويوضح العقيدة في الإلهيات والنبوات ، ويوضح الشريعة في العبادات والمعاملات ، وأمر الله بالعدل في القضاء ، وأنزل الحديد لتأديب الخارجين على دين الله أو شريعته ، وهذا إشارة إلى أن الكتاب يمثل سلطة التشريع ، والعدل يمثل سلطة القضاء ، وإنزال الحديد يمثل السلطة التنفيذية .

التفسير :

25- { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطْ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز } .

تالله لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس وإرشادهم إلى توحيد الله تعالى ، واتباع مكارم الأخلاق ، واجتناب الرذائل والمنكرات ، وأعطينا الرسل المعجزات التي تؤيدهم وتصدّقهم ، فهي بمثابة قول الله تعالى لعباده : صدق عبدي في كل ما يبلّغ عني ، وقد أعطى الله كل نبي معجزة مناسبة له ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى مع تسع آيات بينات ، كاليد والجراد والطوفان ، والضفادع والدم والسنين ، وغرق فرعون وملئه ، وأعطى عيسى إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، وإحياء الموتى بإذن الله ، وأعطى محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن المعجز المتحدّى به ، المهيمن على الكتب السابقة ، ومعه معجزات أخرى ، كما أمر الله الرسل بالعدل في الأحكام ، ليتبع الناس ما أمروا به من الحق والعدل والإنصاف ، وتقوم حياتهم على ذلك ، فيتعاملون مع بعضهم البعض بالعدل والإنصاف والقسط ، في جميع أمورهم الدينية والدنيوية ، فهم الحراس على تنفيذ الأحكام ، واحترام الشرائع ، واتباع الرسل .

{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . . . }

أراد الله لعباده أن يكونوا حماة لدينه ، مدافعين عنه بكل سلاح وبكل قوة ، والسورة تسمى بأهم شيء فيها ، أو أغرب شيء فيها ، لذلك سميت هذه السورة بسورة الحديد ، وكأن الله تعالى يرشد عباده إلى تسخير الحديد في صناعاتهم الثقيلة والخفيفة ، وأدوات الطعام ومرافق المنازل ، وأساس المباني والعمارات ، ومرافق الحياة الاقتصادية ، وآلات الزراعة ، والأسلحة المتعددة ، والقطارات والبواخر ، والطائرات والسيارات ، فالحديد معدن متفاوت الثمن ، متفاوت المنافع ، ما بين حديد التسليح ، وتروس الساعة ، وهو وسيلة الدفاع عن الدولة ضد المعتدين ، ومن الإعجاز أنك تجد الحديد مستخدما في البندقية والرشاش والرادار والدبابة والغواصة والطائرة ، وأدوات كشف الألغام ، وما يكتشف في المستقبل عن مزايا هذا المعدن ، والنواحي المتعددة التي لم تكن تخطر على بال القارئ لهذه الآية وقت نزول القرآن ، مما يدل على اشتمالها على الإعجاز الغيبي ، لأن الذي أنزلها هو العليم بعباده .

وفي الآية دعوة للمؤمنين إلى التحصن بالقوة لحماية دينهم ولإرهاب أعدائهم .

كما قال تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } . ( الأنفال : 60 ) .

{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .

ليشاهد الله ، ويعلم علم مشاهدة ووجود ، من ينصر الله باتباع أمره ، والمسارعة إلى الجهاد في سبيل الله ، وينصر رسله بإخلاص ونية صالحة ، تقصد وجه الله بعملها ، متيقنة بوجود ربها ورقابته ، وإن لم تبصره بعينها ، ولكنها تراقبه بقلوبها ويقينها .

{ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .

فهو سبحانه قوي قادر ، عزيز قاهر غالب ، يستطيع دفع عدوان الظالمين ، ولكنه حث عباده على الجهاد والتضحية والفداء ، وبذل النفس والنفيس في مرضاة الله ونصرة الرسل ، وإحقاق الحق والعدل ، لينالوا شرف الدنيا وسعادة الآخرة .

روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يُعبد الله وحده لا شريك له ، وجُعل رزقي تحت ظلّ رمحي ، وجعلت الذّلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبّه بقوم فهو منهم " 24

ما أحوج المسلمين إلى قراءة كتاب ربهم ، قراءة تفهم ووعي ، ليتخذوا منه زادا نافعا مفيدا ، يأخذ بأيديهم إلى العزة والمنعة ، والتفوق الديني والدنيوي .