السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا} (47)

ولما بيّن سبحانه وتعالى خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وذكر منها أنواعاً النوع الأوّل قوله تعالى : { ويوم } أي : واذكر لهم يوم { نسير } بأيسر أمر { الجبال } عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما نسير نبات الأرض بعد أن صار هشيماً بالرياح كما قال تعالى : { وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب } [ النمل ، 88 ] .

تنبيه : ليس في لفظ الآية ما يدل إلى أين تسير ، قال الرازي : ويحتمل أن يقال : إن الله يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك لخلقه ، والحق أنّ المراد أنّ اللّه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً 105 فيذرها قاعاً صفصفاً 106 لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [ طه ، 105 ، 106 ] ولقوله : { وبست الجبال بساً 5 فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة ، 5 ، 6 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم التاء الفوقية وفتح الياء التحتية بعد السين على فعل ما لم يسم فاعله ورفع الجبال بإسناد تسير إليها كما في قوله تعالى : { وإذا الجبال سيرت } [ التكوير ، 3 ] والباقون بالنون المضمومة وكسر الياء التحتية بعد السين بإسناد فعل التسيير إليه تعالى نفسه ونصب الجبال لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله تعالى : { وحشرناهم } والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا اللّه تعالى .

النوع الثاني قوله تعالى : { وترى الأرض } بكمالها { بارزة } لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله تعالى : { لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً } [ طه ، 106 ] وقيل : إنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فإذا هي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف كما قال تعالى : { وألقت ما فيها وتخلت } [ الانشقاق ، 4 ] وقال تعالى : { وأخرجت الأرض أثقالها } [ الزلزلة ، 2 ] .

النوع الثالث قوله تعالى : { وحشرناهم } أي : الخلائق قهراً إلى الوقت الذي تنكشف فيه المخبآت وتظهر القبائح والمغيبات ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير والناقد فيه بصير { فلم نغادر } أن نترك { منهم } أي : الأوّلين والآخرين { أحداً } لأنه لا ذهول ولا عجز ، ونظيره قوله تعالى : { قل إن الأولين والآخرين 49 لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } [ الواقعة : 49 ، 50 ] فإن قيل : لم جيء فحشرناهم ماضياً بعد نسير وترى ؟ أجيب : بأن ذلك يقال للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظائم ، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك .