السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ} (71)

فكأنه قيل : ما قال لهم فرعون حينئذٍ ؟ فقيل : { قال } لهم : { آمنتم } أي : بالله { له } أي : مصدِّقين أو متبعين لموسى { قبل أن آذن لكم } في ذلك ، قال ذلك إيهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن ، ثم استأنف قوله معلماً مخيلاً لاتباعه صداً لهم عن الاقتداء بالسحرة { إنه } أي : موسى { لكبيركم } أي : معلمكم { الذي علمكم السحر } أي : فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن ، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق . ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة ، فقال مقسماً { فلأقطعن } أي : بسبب ما فعلتم { أيديكم } على سبيل التوزيع { وأرجلكم } أي : من كل رجل يداً ورجلاً ، وقوله : { من خلاف } حال يعني مختلفة ، أي : الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى { ولأصلبنكم } وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه ، فقال : { في جذوع النخل } تشنيعاً لقتلكم وردعاً لأمثالكم { ولتعلمن أينا } يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله : { آمنتم له } ، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله ؛ كقوله : { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } [ التوبة ، 61 ] ، وفيه تبجح باقتداره وقهره ، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب ، وتوضيع لموسى ، واستضعاف له مع الهزء به ؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء .

وقيل : يريد رب موسى الذي آمنوا به { أشد عذاباً وأبقى } أي : أدوم على مخالفته فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية ، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها ، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد ، ويستهزئ بموسي في قوله : { أينا أشد عذاباً وأبقى } ؟ أجيب : بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره ، قال الرازي : ومن استقرأ أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء ، ومما يدل على معاندته قوله : { إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة ، وما لقيهم ، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو ، وكيف حصل ذلك العلم ، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء ،