السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وهي ثلاث وسبعون آية ، وألف ومائتان وثمانون كلمة ، وخمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفاً .

وعن أبي ذر قال : قال أبيّ بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب قال : ثلاثاً وسبعين آية قال : والذي يحلف به أبيّ بن كعب أن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن وأما ما حكي أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض .

{ بسم الله } الذي مهما أراد كان { الرحمان } الذي شملت رحمته كل موجود بالكرم والجود { الرحيم } لمن توكل عليه بالعطف عليه .

ونزل في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي لما قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه ، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة وقل : إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك ، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي في قتلهم فقال إني قد أعطيتهم الأمان فقال عمر : أخرجوا في لعنة الله وغضبه ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة . { يا أيها النبي اتق الله } وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم ، وخوّفه المنافقون من اليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي اتق الله } أي : دم على التقوى كما يقول الرجل لغيره وهو قائم : قم قائماً أي : اثبت قائماً فسقط بذلك ما يقال الأمر بالشيء لا يكون إلا عند اشتغال المأمور بغير المأمور به إذ لا يصح أن يقال للجالس : اجلس ، وللساكت : اسكت ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متقياً لأن الأمر بالمداومة يصح في ذلك فيقال للجالس : اجلس هنا حتى آتيك ، ويقال للساكت : قد أحسنت فاسكت تسلم أي : دم على ما أنت عليه .

وأيضاً من جهة العقل : أن الملك يتقي منه عادة على ثلاثة أوجه : بعضهم يخاف من عقابه ، وبعضهم يخاف من قطع ثوابه ، وثالث يخاف من احتجابه ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني ، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا ، فكيف والأمور البدنية شاغلة ، فالآدمي في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لا بد منه وإن كان معه الله ، ولهذا أشار بقوله عليه الصلاة والسلام { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } ( الكهف : 110 ) يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم ، فأمر بتقوى توجب إدامة الحضور ، وقال الضحاك : معناه اتق الله ولا تنقض الذي بينك وبينهم ، وقيل : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة .

تنبيه : جعل الله تعالى نداء نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبي والرسول في قوله تعالى { يا أيها النبي اتق الله } { يا أيها النبي لم تحرّم } ( التحريم : 1 ) { يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك } ( المائدة : 67 ) وترك نداءه باسمه كما قال تعالى : يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود كرامة وتشريفاً وتنويهاً بفضله ، فإن قيل : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الأخبار في قوله تعالى { محمد رسول الله } ( الفتح : 29 ) { وما محمد إلا رسول } ( آل عمران : 144 ) أجيب : بأن ذلك لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكر في النداء { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ( التوبة : 128 ) { وقال الرسول يا رب } ( الفرقان ، 30 ) { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ( الأحزاب : 21 ) { والله ورسوله أحق أن يرضوه } ( التوبة : 62 ) { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } ( الأحزاب : 6 ) { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } ( المائدة : 81 ) { إن الله وملائكته يصلّون على النبي } ( الأحزاب : 56 ) وقرأ نافع النبئ بالهمزة والباقون بغير همز .

ولما وجه إليه صلى الله عليه وسلم الأمر بخشية الولي الودود أتبعه النهي عن الالتفات لنحو العدو الحسود بقوله تعالى : { ولا تطع الكافرين والمنافقين } في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك من الخالق فيه أمر وإن لاحَ لائح خوفٍ أو برق رجاء فجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله تعالى وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارة والمضادة . قال أبو حيان : سبب نزولها أنه روى : «أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود فتابعه ناس على النفاق وكل يلين لهم جانبه ، وكانوا يظهرون النصائح من طريق المخادعة فنزلت تحذيراً لهم منهم وتنبيهاً على عداوتهم » انتهى وبهذا سقط ما قيل : لم خص الكافر والمنافق بالذكر ولأن ذكر غيرهما لا حاجة إليه لأنه لا يكون عنده إلا مطاعاً ولأن كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طاعته فهو كافر أو منافق ؛ لأن من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إيجاب معتقداً أنه لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافراً ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي ، الكافرين بالإمالة محضة ، وورش بين بين والباقون بالفتح .

ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى : { إن الله } أي : بعظيم كماله { كان } أزلاً وأبداً { عليماً } أي : شامل العلم { حكيماً } أي : بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه ، وأحكم إصلاح الحال فيه .