السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠} (10)

وكان بنو غطفان من أعلى الوادي من قبل المشرق ، وقريش من أسفل الوادي من قبل المغرب كما قال تعالى : { إذ جاؤكم } وهو بدل من إذ جاءتكم { من فوقكم } أي : من أعلى الوادي { ومن أسفل منكم } أي : من أسفل الوادي { وإذ } أي : واذكر حين { زاغت الأبصار } أي : مالت عن سداد القصد فعل الواله الجزع بما حصل لهم من الغفلة الحاصلة من الرعب ، وقوله تعالى : { وبلغت القلوب الحناجر } جمع حنجرة وهي منتهى الحلقوم كناية عن شدة الرعب والخفقان . قال البقاعي : ويجوز وهو الأقرب أن يكون ذلك حقيقة بجذب الطحال والرئة لها عند ذلك بانتفاخهما إلى أعلى الصدر ، ولهذا يقال للجبان انتفخ سحره أي : رئته . فلما اشتد البلاء على الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عمرو وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه فقالا : يا رسول الله أشيء أنزل الله تعالى به لابد لنا من عمل به أم أمر تحبه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا ، قال : لا والله بل لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة إلا قرى أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وأعزنا الله تعالى بك نعطيهم أموالنا ،

ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : أنت وذلك ، فتناول سعد رضي الله تعالى عنه الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال : ليجهدوا علينا .

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوهم محاصرهم ولم يكن بينهم قتال إلا فوارس من قريش ، عمرو بن عبد ودٍّ أخو بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل ، وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، ونوفل بن عبد الله ، وضرار بن الخطاب ، ومرداس أخو محارب بن فهر ، قد تلبسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بني كنانة فقالوا : تهيؤوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثم أقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا عليه ، فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ، ثم تيمموا مكاناً من الخندق ضيقاً فضربوا خيولهم فاقتحمت فيه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع .

وخرج عليّ رضي الله تعالى عنه في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ودٍّ قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحداً ، فلما كان يوم الخندق خرج معلماً ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله قال له علي : يا عمرو إنك كنت تعاهد الله تعالى لا يدعوك رجل من قريش إلى خصلتين إلا أخذت منه إحداهما ، قال له : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإلى الإسلام قال : لا حاجة لي بذلك قال : فإني أدعوك إلى البراز قال : ولم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك .

قال عليّ : ولكني والله أحب أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فنقره أو ضرب وجهه ، ثم أقبل على عليّ فتنازلا وتجاولا فقتله عليّ ، وخرجت خيله مهزومة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان أصابه سهم فمات بمكة ، ونوفل بن عبد الله المخزومي وكان اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه ، فنزل إليه عليّ رضي الله تعالى عنه فقتله فغلب المسلمون على جسده فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا في جسده وثمنه فشأنكم به فخلى بينهم وبينه .

ولما نشأ عن هذا تقلب القلوب وتجدد ذهاب الأفكار كل مذهب ، عبر بالمضارع الدال على دوام التجدد بقوله تعالى : { وتظنون بالله } الذي له صفات الكمال { الظنونا } أي : أنواع الظن ، فظن المخلصون الثُّبت القلوب أن الله تعالى منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم ، فخافوا الزلل ، وروي أن المسلمين قالوا : بلغت القلوب الحناجر فهل من شيء نقوله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا » وأما الضعاف القلوب والمنافقون فقالوا : ما حكى الله عنهم فيما سيأتي ، وقرأ نافع وابن عامر الظنونا هنا والرسولا والسبيلا في آخر السورة بإثبات الألف في الثلاثة وقفاً ووصولاً ، وأبو عمرو وحمزة بحذف الألف وقفاً ووصلا قال الزمخشري : وهو القياس والباقون بالألف في الوقف دون الوصل زادوها في الفاصلة كما زادوها في القافية قال :

أقلي اللوم عاذل والعتابا *** . . . . . . . . . . . . . . . .

ورسم الثلاثة بالألف .