إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَآ أَن رَّءَا بُرۡهَٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَٰلِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوٓءَ وَٱلۡفَحۡشَآءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِينَ} (24)

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يَلويها عنه صارفٌ بعد ما باشرت من مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها : هيتَ لك ، ولعلها تصدّت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب ، والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر { وَهَمَّ بِهَا } بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وكونه ميلاً جبلياً لا يكاد يدخل تحت التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ، ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلاً محكماً وأنه عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل ، ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا{[438]} في قَرن واحد من التعبير بأن قيل : ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر ، وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قوله عز وجل : { لَوْلا أَن رأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله ، والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تتجلى هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقيةِ وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قولُه عليه السلام : « حُفّت الجنةُ بالمكاره وحفت النار بالشهوات » وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه ، وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان ، وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية .

هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثل قوله تعالى : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } [ الفرقان ، الآية 42 ] فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً . وقد جوز أن يكون ( وهم بها ) جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي ، فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهانَ ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً ، هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حلّ الهَمَيان{[439]} وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها ، ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها فلم يكترثْ ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل : ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله ، وقيل : بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين } [ الإنفطار ، الآية 10 ] فلم ينصرف ، ثم رأى فيها : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } [ الإسراء ، الآية 32 ] فلم ينتهِ ثم رأى فيها : { واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } [ البقرة ، الآية 281 ] فلم يَنْجَع ، فقال الله عز وجل لجبريل : «أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة » فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول : يا يوسفُ أتعملُ عملَ السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيزِ ، وقيل : إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها .

{ كذلك } الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقوله تعالى : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل ، أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً { والفحشاء } والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط ، وإلا لقيل : لنصرِفَه عن السوء والفحشاء ، وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل . وقرىء ليَصرِف على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ ، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها ، وقرىء على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية .


[438]:لزه لزا: شده وألصقه.
[439]:الهيمان (بكسر الهاء وسكون الميم): شداد السراويل.