إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ} (17)

{ مّثْلُهُمْ } زيادة كشف لحالهم وتصويرٌ غِبَّ تصويرِها بصورة ما يؤدي إلى الخسار بحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخَسار من حيث النفسُ تهويلاً لها وإبانةً لفظاعتها ، فإن التمثيلَ ألطفُ ذريعةٍ إلى تسخير الوهم للعقل ، واستنزالِه من مقام الاستعصاء عليه ، وأقوى وسيلةٍ إلى تفهيم الجاهل الغبي ، وقمعِ سَوْرةِ الجامح الآبي ، كيف لا وهو رفعُ الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية ، وإبرازٌ لها في معرض المحسوسات الجلية ، وإبداءٌ للمنكر في صورة المعروف ، وإظهارٌ للوحشي في هيئة المألوف ، والمَثَل في الأصل بمعنى المِثْل والنظير ، يقال مِثْل ومَثَل ومثيل ، كشِبْهٍ وشَبَه وشبيه ، ثم أطلق على القول السائر الذي يُمثّل مضرِبُه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولاً بديعاً فيه غرابةٌ صيَّرتْه جديراً بالتسيير في البلاد وخليقاً بالقبول فيما بين كل حاضرٍ وباد ، استعير لكل حال أو صفةٍ أو قصة لها شأن عجيب ، وخطرٌ غريب من غير أن يلاحَظ بينها وبين شيءٍ آخرَ تشبيهٌ ، ومنه قوله عز وجل : { وَلِلَّهِ المثل الاعلى } [ النحل ، الآية 60 ] أي الوصفُ الذي له شأن عظيم وخطر جليل ، وقوله تعالى : { مثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } [ الرعد ، الآية 35 ] أي قصتها العجيبةُ الشأن { كَمَثَلِ الذي } أي الذين كما في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة ، الآية 69 ] خلا أنه وُحِّد الضمير في قوله تعالى : { استوقد نَاراً } نظراً إلى الصورة ، وإنما جاز ذلك مع عدم جوازِ وضعِ القائمِ مَقام القائمين ، لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعةُ صلةً له دون نفسه ، بل إنما هو صلةٌ لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لاستطالته بصلته ، ولذلك بولغ فيه فحُذف ياؤه ثم كسرتُه ثم اقتُصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه ، فحقُه ألا يُجمع ، ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته ، وليس ( الذين ) جمعَه المصحح بل النونُ فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ، ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة ، أو قصد به جنسُ المستوقد أو الفوجُ أو الفريقُ المستوقد ، والنارُ جوهرٌ لطيف مُضيء حارٌّ محرق ، واشتقاقها من نار ينورُ إذا نفَر لأن فيها حركة واضطراباً واستيقادُها طلبُ وُقودها ، أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرطُ الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس ، الآية 5 ] وتجيء متعدية ولازمة ، والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد ، أو فلما أضاء ما حوله ، والتأنيث لكونه عبارةً عن الأماكن والأشياء ، أو أضاءت النارُ نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النارِ المنزّلِ منزلتَها لا لنفسها ، أو ( ما ) مزيدةٌ و( حوله ) ظرف ، وتأليفُ الحول للدوران ، وقيل : للعام حَوْلٌ لأنه يدور { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } النور ضوءُ كل نيِّر ، واشتقاقه من النار ، والضمير للذي ، والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ الله نارهم التي هي مدار نورِهم ، وإنما علِق الإذهابُ بالنورَ دون نفس النار لأنه المقصودُ بالاستيقاد ، لا الاستدفاءِ ونحوه كما ينبئ عنه قوله تعالى : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } حيث لم يقل فلما شب ضِرامُها أو نحو ذلك ، وهو جوابُ ( لمّا ) أو استئنافٌ أجيب به عن سؤال سائل يقول ما بالُهم أشبَهَتْ حالهم حالَ مستوقدٍ انطفأت ناره ، أو بدلٌ من جملة التمثيل على وجه البيان ، والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما في قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [ يوسف ، الآية 15 ] للإيجاز والأمن من الإلباس ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله خمَدَت فبقُوا في الظلمات خابطين متحيِّرين خائبين بعد الكدح في إحيائها ، وإسنادُ الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى ، وإما لأن الانطفاءَ حصل بسبب خفيّ ، أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعديةُ الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله عز وجل فأمسكه فلا مرسلَ له من بعده ، ولذلك عُدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهابَ الضوء قد يجامع بقاءَ النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوي لعدم الضعيف ، والمراد إزالتُه بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } فإن الظلمةَ التي هي عدمُ النور وانطماسُه بالمرة ، لاسيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضُها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعدها من قوله تعالى : { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يتحقق إلا بعد ألا يبقى من النور عينٌ ولا أثر ، وإما لأن المراد بالنور ما لا يرضى به الله تعالى من النار المجازية التي هي نارُ الفتنة والفساد كما في قوله تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة ، الآية 64 ] ووصفُها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح ، أو النار الحقيقية التي يوقدها الغواة ليتوصلوا بها إلى بعض المعاصي ، ويهتدوا بها في طرق العبث والفساد ، فأطفأها الله تعالى ، وخيب آمالهم ، و( ترك ) في الأصل بمعنى طرَح وخلَّى ، وله مفعول واحد ، فضُمِّن معنى التصيير فجرى مَجرى أفعال القلوب قال : [ الكامل ]

فتركتُه جَزَرَ السِّباع ينُشْنَه *** يقضَمْنَ حُسنَ بنانِه والمِعصَمِ{[29]}

والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصرَ وتمنعه من الرؤية ، وقرئ ( في ظُلْمات ) بسكون اللام ، و( في ظلمة ) بالتوحيد ، ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح ، كأن الفعل غير متعد ، والمعنى أن حالهم العجيبة - التي هي اشتراؤهم الضلالةَ - التي هي عبارة عن ظلمتي الكفرِ والنفاقِ المستتبعتين لظُلمة سخط الله تعالى ، وظلمةِ يوم القيامة : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } [ الحديد ، الآية 12 ] ، وظلمةِ العقاب السرمدي - بالهدى ، الذي هو النورُ الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصّلوه من التوراة حسبما ذكر - كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى ، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار .


[29]:ورد في المعجم المفصل. غادرته جزر السباع ينشنه *** ما بين قمة رأسه والمعصم وهو لعنترة في ديوانه ص 210 وخزانة الأدب 9/165، 166 وشرح شواهد المغني 1/480. والشاهد فيه أن "غادر" ملحق بـ "صير" في العمل والمعنى إذا كان ثاني المنصوبين معرفة. ويروى "وتركته جزر السباع".