إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (6)

{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة ، إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل ، وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار ، الآية 13 و14 ] لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب ، والتبايُن في الغرض ، فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد ، وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد ، سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله ، أو مفصولاً عنه ، فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ من الكلام المتقدم ، فهو من مستتبِعاته لا محالة . وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً ، وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير ، ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير ، فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول ، وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلول ، وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاتِه .

و( إن ) من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها ، كإنني ولعلني ونظائرهما ، وإعطاءِ معانيه ، والتعدي خاصةً في الدخول على اسمين ، ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ ، وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه ، وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر ، بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب . وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل ، وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها ، فتعين إعمالُ الحرف ، وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها ، ولذلك يتلقى بها القسمُ ، وتُصدَّر بها الأجوبة ، ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه ، قال المبّرِد : قولُك : عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه ، وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه ، وإن عبدَ اللَّه لقائمٌ جوابُ منكرٍ لقيامه .

وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود ، أو للجنس ، وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى : { سَوَاء عَلَيْهِمْ . . . } الخ ، والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة ، وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر . ومنه قيل للزارع والليلِ كافرٌ ، قال تعالى : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } [ الحديد ، الآية : 20 ] وعليه قول لبيد : [ الكامل ]

يعلوا الطريقة متنها متواتر *** في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها{[18]}

ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه ، وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيءُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام به ، وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب ، فإن مَنْ صدق النبي عليه السلام لا يكاد يجترئ على أمثال ذلك ، إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر ، واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار ، فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة ، وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام ، كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم { سَوَاء } هو اسمٌ بمعنى الاستواء ، نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً ، قال تعالى : { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } [ آل عمران ، الآية 64 ] وقوله تعالى : { عَلَيْهِمْ } متعلق به ، ومعناه عندهم ، وارتفاعُه على أنه خبر ، لأن قوله تعالى : { أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } مرتفعٌ به على الفاعلية ؛ لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام ، لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما ، كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة ، الآية 80 ] وحرفُ النداء في قولك : اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب لمجرد التخصيص ، كأنه قيل : إن الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه . كقولك : إن زيداً مختصمٌ أخوه وابنُ عمه ، أو مبتدأ ، و { سَوَاء عَلَيْهِمْ } خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه ، والجملة خبرٌ لإن ، والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه عند بقائه على حقيقته .

وأما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمناً على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه ، كما في قوله تعالى : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } [ المائدة ، الآية 119 ] وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة ، الآية 11 ] وفي قولهم : ( تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ ){[19]} ، كأنه قيل : إنذارُك وعدمه سيان عليهم ، والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدُّد ، والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده ، كما أشير إليه ؛ وقيل : ( سواء ) مبتدأ وما بعده خبره وليس بذاك ؛ لأن مقتضى المقام بيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً ، لا بيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه ، والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه ، إفعال من نذر بالشيء إذا علِمه فحذِره ، والمراد هاهنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي ، والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً ، ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب ، وأشدُّ تأثيراً في النفوس ، فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع ، فحيث لم يتأثروا به فَلئلاّ يرفعوا للبشارة رأساً أولى ، وقرئ بتوسيط ألفٍ بين الهمزتين مع تحقيقهما ، وبتوسيطها والثانية بَيْنَ بين ، وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط ، وبحذف حرف الاستفهام ، وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله ، كما قرئ قدَ أفلح ، وقرئ بقلب الثانية ألفاً ، وقد نسب ذلك إلى اللحن .

{ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها ، مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء ، فلا محلَّ لها من الإعراب ، أو حال مؤكدةٌ له ، أو بدل منه أو خبرٌ لأن ، وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم ، أو خبرٌ ثانٍ على رأي من يجوِّزه عند كونه جملة ، والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق ، فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون ، فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان ، باقين على التكليف ، ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمانَ بعدم إيمانهم المستمر ، والحق أن التكليفَ بالممتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضاً لاسيما الامتثالُ ، لكنه غيرُ واقع للاستقراء ، والإخبارُ بوقوعِ الشيء أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه ، كإخباره تعالى عما يفعله هو ، أو العبدُ باختياره ، وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر ، بل هو الإيمانُ بجميع ما جاء به النبي عليه السلام إجمالاً ، على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلوماً لهم .

وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ ، ولذلك قيل : سواء عليهم ، ولم يقل : عليك ، كما قيل لعبَدة الأصنام { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } [ الأعراف ، الآية 193 ] وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة .


[18]:وهو للبيد في ديوانه ص 309؛ وجمهرة اللغة ص 787 وكتاب الجيم 3/168؛ وبلا نسبة في المخصص 12/238.
[19]:المعيدي: كان الكسائي يرى التشديد في الدال فيقول بالمعيدي ويقول إنما هو تصغير رحل منسوب إلى معد، يضرب مثلا لمن خبره خير من مرآته وقال ابن السكيت: يضرب للرجل الذي له صيت وذكر فإذا رأيته ازدريت مرآته.