إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُكُمۡ فِي بَعۡضِ ٱلۡأَمۡرِۖ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِسۡرَارَهُمۡ} (26)

{ ذلك } إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من ارتدادِهم لا إلى الإملاءِ كما نُقلَ عن الواحديِّ ولا إلى التسويلِ كما قيل لأنَّ شيئاً منهما ليس مُسبباً عن القولِ الآتي وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى : { بِأَنَّهُمْ } أي بسببِ أنَّهم { قَالُوا } يعني المنافقينَ المذكورينَ لا اليهودَ الكافرينَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما وجدُوا نعتَهُ في التوارةِ كما قيل فإن كفرَهم به ليسَ بسببِ هذا القولِ ولو فُرض صدورُه عنهم سواءٌ كان المقولُ لهم المنافقينَ أو المشركينَ على رأي القائلِ ، بل من حينِ بعثتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ { لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله } أي لليهودِ الكارهينَ لنزولِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع علمِهم بأنَّه من عندِ الله تعالى حسداً وطمعاً في نزولِه عليهم لا للمشركينَ كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى : { سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر } عبارةٌ قطعاً عما حُكِيَ عنُهم بقولِه تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أحدا أبدا وإن قولتم لننصرنكم } [ سورة الحشر ، الآية 11 ] وهم بنُو قريظةَ والنَّضيرِ الذين كانوا يوالونَهم ويوادُّونَهُم وأرادُوا بالبعضِ الذي أشارُوا إلى عدمِ إطاعتهم فيه إظهارَ كُفرِهم وإعلان أمرِهم بالفعلِ قبل قتالِهم وإخراجِهم من ديارِهم فإنَّهم كانوا يأبَون ذلك قبل مساسِ الحاجةِ الضروريةِ الداعيةِ إليه لِما كان لهم في إظهارِ الإيمانِ من المنافعِ الدنيويةِ ، وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سِرَّاً كما يُعربُ عنه قولُه تعالى : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي إخفاءَهُم لما يقولونَهُ لليهودِ . وقُرِئ أَسْرَارَهُم أي جميعَ أسرارِهم التي من جُملتها قولُهم هذا ، والجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لما قبله متضمنٌ للإفشاءِ في الدنيا والتعذيبِ في الآخرةِ .