إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞يَوۡمَ يَجۡمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبۡتُمۡۖ قَالُواْ لَا عِلۡمَ لَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (109)

{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } نُصب على أنه بدل اشتمال من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة ، فإن مدارَ البداية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط ، بل هو تعلّقٌ ما ، مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليٍّ كما فيما نحن فيه ، فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب ، مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتّقى أيُّ شأنٍ من شؤونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله . وقيل : هناك مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال ، أي اتقوا عذابَ الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية ، وقيل : منصوب بمُضْمر معطوفٍ على ( اتقوا ) وما عُطف عليه ، أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ ، فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة ، وقيل : هو ظرف لقوله تعالى : { لا يَهدي } ، أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين ، وقيل : منصوب بقوله تعالى : { واسمعوا } بحذف مضاف ، أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم ، وقيل : منصوب بفعل مؤخر قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانِه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامّة التامة والدواهي العامة ، كأنه قيل : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ) الخ ، يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه ( نطاقُ ) المقال ، وإظهارُ الاسمِ الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل ، وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم ، كيف لا و { ذلك يَوْمٌ مجْمُوعٌ لهُ الناس وذلك يَوْمٌ مشهُودٌ } [ هود ، الآية 103 ] وقد قال الله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم } [ الإسراء ، الآية : 71 ] بل لإبانة شرفهم وأصالتهم ، والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم ، ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع الرسل ، كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال ، وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال ! { فَيَقُولُ } لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحاً ، وإلا لصدر الخطاب بأن يقال : هل بلغتم رسالاتي ؟ وماذا في قوله عز وجل : { مَاذَا أُجِبْتُمُ } عبارةٌ عن مصدر الفعل ، فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد ؟ وقيل : عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم ؟ وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرسل عليهم السلام كسؤال الموؤودة بمَحْضرٍ من الوائد ، والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال : ماذا أجابوا ؟ من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفى { قَالُوا } استئناف مبني على سؤال نشأ من سَوْق الكلام كأنه قيل : فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك ؟ فقيل : يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَا } وصيغةُ الماضي للدلالة على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف ، الآية : 44 ] { ونادى أصحاب الأعراف } [ الأعراف ، الآية : 48 ] ونظائرِهما ، وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه { إِنَّكَ أَنتَ علاّم الغيوب } تعليل لذلك ، أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم ، وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من الخطوب ، وكابدوا من الكروب ، والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وقيل : المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم ؟ وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة ، وعن ابن عباس ومجاهد والسُدّي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يُجيبون بعدما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ، ولا يلائمه التعليل المذكور . وقيل : المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم ، وقرئ ( علامَ الغيوب ) بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح ، على أن الكلام قد تم عند قوله تعالى : { أَنتَ } أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك .