إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِذۡ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ هَلۡ يَسۡتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيۡنَا مَآئِدَةٗ مِّنَ ٱلسَّمَآءِۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (112)

{ إِذْ قَالَ الحواريون } كلام مستأنفٌ مَسوقٌ لبيان بعض ما جرى بينه عليه السلام وبين قومه ، منقطعٌ عما قبله كما ينبئ عنه الإظهارُ في موقع الإضمار و( إذ ) منصوب بمُضمر خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام بطريق تلوين الخطاب والالتفات ، لكن لا لأن الخطاب السابقَ لعيسى عليه السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب ، بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى : { واتقوا الله } [ المائدة ، الآية 108 ] الآية ، فتأمل ، كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدر عن الحواريين من المقالة المعدودة من نعم الله تعالى الفائضة على عيسى عليه السلام : اذكُر للناس وقت قولهم الخ ، وقيل : هو ظرف لقالوا ، أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان ، ولا يساعده النظم الكريم { يا عيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً منَ السماء } اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا ؟ فقيل : كانوا كافرين شاكّين في قدرة الله تعالى على ما ذَكَروا ، وفي صدْقِ عيسى عليه السلام ، كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص ، وقيل : كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك ، و( هل يستطيع ) سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه ، وقيل : الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة ، لا على ما تقتضيه القدرة ، وقيل : المعنى هل يستطيع ربك ؟ بمعنى هل يجيبك ؟ واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب ، وقرئ ( هل تستطيعُ ربَّك ) أي سؤال ربك ، والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارف يصرِفك عنه ؟ وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذٍ رضي الله عنهم ، وسعيدِ بن جبير في آخرين ، والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام ، من مادَه إذا أعطاه ورفدَه ، كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ، ونظيرُه قولهم : شجرة مطعمة ، وقال أبو عبيد : هي فاعلة بمعنى مفعولة كعيشة راضية { قَالَ } استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ناشئٍ مما قبله ، كأنه قيل : فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك ؟ فقيل : قال : { اتقوا الله } أي من أمثال هذا السؤال { إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ } أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإن ذلك مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعةً لحُصول المسؤول ، كقوله تعالى :

{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق ، الآية2 ] وقولِه تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } [ المائدة ، الآية 35 ] .