إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (14)

{ وَمِنَ الذين قَالُوا إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم } بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتِهم ، و( مِن ) متعلقة ( بأخذنا ) ، إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم ، وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به ، ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا ؟ فكأنه قيل : ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم ، وقيل : هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع خبراً لمبتدأ محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه ، أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم ، أو مَنْ أخذنا ميثاقهم ، وضميرُ ( ميثاقَهم ) راجعٌ إلى الموصوف المقدر ، وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول ، وقيل : راجع إلى بني إسرائيل ، أي أخذنا من هؤلاء ميثاق أولئك ، أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل ، وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير ، وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق ، وإنما هو تقوّلٌ محضٌ منهم ، وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء ، أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم ، فإن ادعاءهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه { فَنَسُوا } عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم { حَظًّا } وافراً { ممَّا ذُكِّرُوا بِهِ } في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً ، وقيل : هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يُؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم ، واتبعوا أهواءهم فاختلفوا وتفرقوا نِسطوريةً ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان ، { فَأَغْرَيْنَا } أي ألزمنا وألصَقنا ، من غرِيَ بالشيء إذا لزمه ولصِق به ، وأغراه غيرُه ، ومنه الغِراء ، وقوله تعالى : { بَيْنَهُمْ } إما ظرف لأغرينا أو متعلق بمحذوف وقع حالاً من مفعوله ، أي أغرينا { العداوة والبغضاء } كائنة بينهم ، ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما ، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله ، وقوله تعالى : { إلى يَوْمِ القيامة } إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء ، أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤُهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الثلاثة ، فضمير ( بينهم ) لهم خاصة ، وقيل : لهم ولليهود ، أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى { وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعّده : سأخبرك بما فَعَلت ، أي يجازيهم بما عملوه على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذُكِّروا به ، و( سوف ) لتأكيد الوعيد ، والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد ، والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك ، وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعِها للعذاب ، فيكونُ ترتيبُ العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها .