وقولُه تعالَى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } شروعٌ في تفصيلِ بعضِ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ ، وبيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ ، واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ . والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالَى . والموتُ عندَ أصحابِنَا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ ، وأمَّا ما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا منْ أنَّهُ تعالَى خلقَ الموتَ في صُورةِ كبشٍ أملحَ ، لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحَتَهُ شيءٌ إلا ماتُ ، وخلقَ الحياةَ في صورةِ فرسٍ بَلقاءَ ، لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيءٌ إلا حَيي ، فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ . وقيلَ هو عدمُ الحياةِ ، فمعنَى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ . وأيَّاً ما كانَ فالأقربُ أنَّ المرادَ بهِ الموتُ الطارئُ ، وبالحياةِ ما قبلَهُ وما بعدَهُ لظهورِ مداريتِهِما ، لما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فإن استدعاءَ ملاحظتِهِما لإحسانِ العملِ بما لا ريبَ فيهِ معَ أنَّ نفسَ العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ . وتقديمُ الموتِ لكونِهِ أدعى إلى إحسانِ العملِ ، واللامُ متعلقةٌ بخلقَ ، أي خلقَ موتَكُم وحياتَكُم ، على أنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ، ليعاملَكُم معاملةَ مَنْ يختبرُكم أيكُم أحسنُ عملاً ، فيجازيكُم على مراتبَ متفاوتةٍ حسبَ تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم . فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ، ولذلكَ فسَّرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه :
«أيكم أحسنُ عقلاً وأورعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله » . فإنَّ لكل من القلبِ والقالبِ عملاً خاصَّاً به ، فكَما أنَّ الأولَ أشرفُ من الثَّانِي ، كذلكَ الحالُ في عملِهِ ، كيفَ لاَ ، ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبة على العبادِ أثر ذي أثير ، وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالَى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاقِ . وقَد رُوِيَ عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ : «لا تُفضِّلُونِي على يونِس بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفعُ لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ » . قالُوا : وإنَّما كانَ ذلكَ التفكرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ ، الذي هُو عملُ القلبِ ضرورةَ أنَّ أحداً لا يقدرُ على أنْ يعملَ بجوارحِهِ كلَّ يومٍ مثلَ عملِ أهلِ الأرضِ . وتعليقُ فعلِ البَلْوَى ، أي تعقيبُهُ بحرفِ الاستفهامِ ، لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ ، لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِهِ كالنظرِ ونظائِره ، ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ ، وقيلَ بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ . وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ أنَّ الابتلاء شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالِهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ ، للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ والمقصدِ الأصليَّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنينَ مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقينَ أيضاً ، لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له . وأما الإعراضُ عن ذلكَ ، فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن الانتظامِ في سلكِ الغايةِ للأفعالِ الإلهيةِ ، وإنَّما هُو عملٌ يصدرُ عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِهِ ، من غيرِ مصححٍ لهُ ولا تقريبٍ ، وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ ، والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يَخْفى . { وَهُوَ العزيز } الغالبُ الذي لا يفوتُهُ من أساءَ العملَ { الغفور } لمن تابَ منهُم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.