الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَنۢ بُورِكَ مَن فِي ٱلنَّارِ وَمَنۡ حَوۡلَهَا وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (8)

{ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } .

قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن : يعني قُدّس مَن في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عزَّ وجل ، وتأويل هذا القول أنّه كان فيها لا على معنى تمكُّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها ، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة : جاء الله عزّ وجلّ من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران ، فمجيئه عزَّ وجلّ من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح بها ، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم وفاران مكة ، وقالوا : كانت النار نوره عزَّ وجلّ ، وإنّما ذكره بلفظ النّار لأنّ موسى حسبه ناراً ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر .

وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله سبحانه وتعالى ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا هاشم القاسم بن القاسم قال : حدّثنا المسعودي عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة ، موسى عن الأشعري قال : قام بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال : " إنّ اللّه عزَّ وجل لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النار ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره " ، ثم قرأ أبو عبيدة { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .

وقيل معناه : بورك مَن في النار سلطانه وقدرته وفيمن حولها .

وقال آخرون : هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة ، ومجاز الآية : بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها ، وهذا كما يقال : بلغ فلان البلد إذا قرب منه ، وورد فلان الماء لا يريدون أنّه في وسطه ، ويقال : أعطِ مَن في الدار ، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار ، ونحوها كثير .

ومعنى الآية : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذا تحيّة من الله سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا :

{ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } [ هود : 73 ] .

وقال بعضهم : هذه البركة راجعة إلى النار نفسها .

روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال : معناه بوركت النار ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن نجدة قال : حدّثنا الحمّاني قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أُبيّاً يقرؤها : أن بوركت النار ومن حولها ، وتقدير هذا التفسير أنَّ ( من ) تأتي في الكلام بمعنى ( ما ) ، كقوله سبحانه

{ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر : 20 ] وقوله

{ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] الآية و( ما ) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله

{ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ } [ ص : 11 ] و

{ عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى ( عليه السلام ) ، فسمّى النار مباركة كما سمّى البقعة مباركة فقال في

{ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } [ القصص : 30 ] .

وأمّا وجه قوله { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } فإنّ العرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك وبارك لك ، أربع لغات ، قال الشاعر :

فبوركت مولوداً وبوركت ناشياً *** وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنَّ ذلك كلّه من أمارات الحدث ، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو تحدّه الصفات ، أو تصحبه الأوقات ، أو تحويه الأماكن والأقطار .

ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان ، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعاً أو ينزل مكاناً ، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت ، بل هو صفة يوصف بها الباري عزّ وجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به .

فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته ، قال اللّه سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .