الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَنَادَتۡهُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَهُوَ قَآئِمٞ يُصَلِّي فِي ٱلۡمِحۡرَابِ أَنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحۡيَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّدٗا وَحَصُورٗا وَنَبِيّٗا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (39)

{ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ } : قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : فناديه بالياء ، وأبو عمارة وأبو عبيدة ، وقرأ الباقون : بالتّاء واختاره أبو حاتم : فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إنْ شئت أنَّثت وإن شئت ذكَّرت ، إلاّ أنّ من قرأ بالتاء ؛ فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله :

{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا } [ الحجرات : 14 ] ، ومَن ذكّر خلها .

روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم ، قال : كان عبد اللَّه يُذكّر الملائكة في القرآن ، قال أبو عبيدة : إنمايرى [ أن ] اللَّه اختار ذلك خلافاً على المشركين في قولهم : الملائكة بنات اللَّه فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم .

وروى الشعبي أن ابن مسعود قال : إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءاً وذكّروا القرآن .

وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فاجعلوها ياء . وأراد بالملائكة ههنا : جبريل وحده ؛ وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان ، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول ، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل : يا زكريا { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى } فذلك قوله : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ } : يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يمَرْيَمُ } [ آل عمران : 42 ] : يعني جبريل وحده ، وقوله في النحل :

{ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ } [ النحل : 2 ] : يعني جبريل ما يروح بالوحي ؛ لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل ( عليه السلام ) ، يأتي عليه قوله ابن مسعود ، فناداه جبريل { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } : وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : ركب فلان في السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وخرج على بغال البريد ، وإنما على بغل واحد ، وسمعت هذا الخبر من الناس ، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى :

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] : يعني نعيم بن مسعود .

{ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة .

وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع ؛ لاجتماع أصحابه معه ، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يُبعث إلاَّ ومعه جمع منهم فهي على هذا .

{ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } : يعني في المسجد ، نظيره قوله :

{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } [ مريم : 11 ] : أي المسجد ، وقوله :

{ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } [ ص : 21 ] : أي المسجد ، وهو مفعال من الحرب ، قيل : سمي بهذا ؛ لأنّه تحارب فيه الشيطان ، كما قيل : مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل ، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن ، وفخّمه الآخرون .

{ أَنَّ اللَّهَ } قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة : بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت : إن اللَّه ؛ لأن النداء قول .

وقرأ الباقون : بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال : فنادته الملائكة أن اللَّه يُبشرك .

وقرأ عبد اللَّه : { فِي الْمِحْرَابِ } يا زكريا إن اللَّه { يُبَشِّرُكَ } : اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة : موضعين ههنا

وفي التوبة

{ يُبَشِّرُهُمْ } [ الآية : 21 ]

ومريم وفي الحجر

{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] ، [ مريم : 7 ] ، و{ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ]

وفي سبحان والكهف

{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 223 ] ، [ التوبة : 112 ] ،

وفي مريم موضعين :

{ يزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } [ الآية : 7 ] و{ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ } [ الآية : 97 ] ،

وفي حم عسق :

{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ } [ الشورى : 21 ، 23 ]

فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة ، وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها : حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها .

وقرأ يحيى بن رثاب والكسائي خمسة منها مخففة ، موضعين ههنا وفي سبحان والكهف وعسق .

وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفاً واحداً وهو قوله : في { حم ، عسق ذَلِكَ } النبي

{ ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ } [ الشورى : 23 ] .

وقرأها كلها حميد بن قيس : بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها .

الباقون : بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده ، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يُبشر ، قال الشاعر :

يا أُمّ عمرو أبشري بالبشرى *** موتُ ذريع وجراد عظلي

ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر ، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود . قال الشاعر :

نشرت عوالي إذ رأيتُ حيفة *** ماسك من الحجّاج تعلى كتابها

وقال الفرّاء :

وإذا رأيت الباهشين إلى العلى *** غبراً أكفهم بقاع ممحل

فأعنهم وأبشر بما بشروا به *** وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل

روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي ، قال : من قرأ يبشرهم مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشّرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور ، يسرّهم ، وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : إن اللَّه يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاماً .

ومن قرأ بالتشديد من بشر يُبشر بشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحهم .

قال جرير :

يا بشر حق لوجهك التبشير *** هلا غضبت لنا وأنت أمير

ودليل التشديد : إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله :

{ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ } [ الزمر : 17 ، 18 ] ،

{ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } [ الصافات : 112 ] ،

{ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } [ الحجر : 55 ] .

{ بِيَحْيَى } : هو اسم لا يجري لمعرفته ، والمزايد في أوله مثل : يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم ؛ لأجل الياء وفخّمه الآخرون ، وجمعُهُ " يحيون " مثل موسون وعسون ، واختلفوا فيه لِمَ سُمي " يحيى " .

قال ابن عباس : لأن اللَّه أحيا به عقر أُمه . قتادة : لأن اللَّه أحيا قلبه بالإيمان . بعضهم : لأن اللَّه أحيا قلبه بالنبوة .

الحسن بن الفضل : لأن اللَّه أحياه بالطاعة حتى لم يعصِ ولم يهم بمعصية .

ما روى عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلاَّ ويلقى اللَّه عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلاَّ يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها .

قال الثعلبي : [ سمعت ] الأستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول : سُمي بذلك ؛ لأنه استشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .

قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من هوان الدنيا على اللَّه أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة " .

قال الثعلبي : وسمعت أبا منصور [ الجمشاذي ] يقول : عن عمر بن عبيد اللَّه المقدسي : أوحى اللَّه إلى إبراهيم الخليل : أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها : أني مخرج منكما عبداً لا يموت بمعصيتي اسمه حيى فهبي له من اسمك حرفاً ، فوهبت له أول حرف من اسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة .

{ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ } : نصب على الحال { مِّنَ اللَّهِ } : يعني عيسى ( عليه السلام ) سُمي كلمة ؛ لأن اللَّه قال له : كن من غير أب فكان ، فوقع عليه اسم الكلمة ؛ لأنه كان بها ، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، وكانا ابني خالة ، ثم قُتل يحيى قبل أن يرفع عيسى ( عليهما السلام ) .

وقال أبو عبيدة وعبدالعزيز بن يحيى : بكلمة من اللَّه وآياته ، يقول : أنشدني كلمة فلان : أي قصيدته .

{ وَسَيِّداً } : من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود ، وهو الرئيس الذي يتَّبع ويُنتهى إلى قوله .

قال المفضل : أراد سيداً في الدين .

شريك عن أبي روق عن الضحاك قال : السيد الحسن الخلق .

وروى شريك بإسناده أيضاً عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل .

سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم . قتادة : سيد في العلم والصوم ، سعيد بن جبير : الحليم ، الضحّاك : التقي ، عكرمة : الذي لا يغضب ، مجاهد : الكريم على اللَّه ، ابن زيد : الشريف الكبير ، سفيان الثوري : الذي لا يحسد .

روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال : الحسود لا يسود .

قال الخليل بن أحمد : مطاعاً .

الزجّاج : هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه .

أحمد بن عاصم : السيد القانع بما قسم له .

أبو بكر الورّاق : الراضي بقضاء اللَّه تعالى .

محمد بن علي الترمذي : المتوكل على اللَّه .

أبو زيد البسطامي : هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره ، لم يُحدث نفسه بدار الدنيا ، وقيل : هو السخي .

روى ابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان . قال : وأيُّ داء أدوى من البخل ، بل سيدكم عمرو بن جموح .

روى عبد اللَّه بن عباس : إنه كان قاعداً مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاءه بضعة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر ، فسلموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى القوم ، ثم قالوا : مَن السيد منكم ؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فعرفوا أنه رسول اللَّه ، فقالوا : فما في أمتك سيد ، قال : بلى رجلٌ أعطى مالاً حلالا ورُزِقَ سماحةً ، وأدنى الفقراء وقلتْ شكايتهُ .

وروى أن أسد بن عبد اللَّه قال لرجل من بني شيبان : بلغني أن السودد فيكم رخيص . فقال : أما نحن فلا نسود إلاَّ من يعطينا رحله ، ويفرش لنا عرضه ، ويعطينا ماله . فقال : واللَّه إن السودد فيكم لغال .

{ وَحَصُوراً } : أصله من الحصر وهو الحبس ، يُقال : حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منهُ ، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها ، ومنه إحصار العدو . قال اللَّه تعالى :

{ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ] : أي محبساً . ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسهُ ولا يظره حُصر .

قال جرير :

ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا *** حصراً بسركِ يا أميم ضنيناً

فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ ، فهو على هذا القول : مفعول بمعنى فاعل يعني : أنه يحصر نفسه عن الشهوات .

وقال سعيد بن المسيب والضحّاك : هو العنّين الذي لا ماء له ، ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ابن آدم يلقى اللَّه بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصورا " .

{ وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } : ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : " كان ذكره مثل هذه القذاة " .

وقال المبرد : الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل ، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور . قال الأخطل :

وشاربُ مربح بالكأس نادمني *** لا بالحصور ولا فيها بسوار