الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطِـُٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (37)

{ إِنَّمَا النَّسِيءُ } قرأ الحسن ، وعلقمة وقتادة ومجاهد ونافع غير ورش وأبو عامر وعيسى والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر : النسيء ممدود مهموز ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ، وهو مصدر كالخرير والسعير والحريق ونحوها ، ويجوز أن يكون مفعولاً مصروفاً إلى فعيل مثل الجريح والقتيل والغريق ، تقديره : إنما الشهر المؤخَّر ، وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة والأشهب وشبل : ( إنما النسيء ) ساكنة : السين مهموزة على المصدر لا غير ، وقرأ أبو عمرو وورش النسيّ بالتشديد من غير همزة .

وروي ذلك عن ابن كثير على معنى النسيّ أي المتروك قال الله تعالى { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } من النسيان ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز مخفف ، واختلفوا في أصل الكلمة ، فقال الأخفش : هو من التأخير ومنه النسيئة في البيع ، ويقال : أنسأ الله أجله ، ونسأ في أجله أي أخّره ، وقال قطرب : هو من الزيادة ، وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء ، وكذلك قيل للبن إذ كثر بالماء نسىء ، ونسؤ ، وللمرأة الحبلى نسؤتْ ، لزيادة الواو فيها ، وقد نسأتُ الناقة وأنسأتها إذا زجرتها ليزداد سيرها ، وقال قتادة : عهد ناس من أهل الضلالة فزادوا صفراً في الأشهر الحرم ، وكان يقوم قائمة في الموسم ويقول : ألا إن آلهتكم قد حرمت المحرم فيحرمونه ذلك العام ، ثم يقوم في العام المقبل فيقول : ألا إن آلهتكم قد حرّمت صفر فيحرمونه ذلك العام وكان يقال لهما : صفران .

وأما معنى النسيء وبدوّ أمره على ماذكره العلماء بألفاظ مختلفة ومعنى متفق ، فهو إن العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة وكان ذلك مما تمسّكت به من ملّة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لايغزون فيها ، وقالوا : لئن توالت علينا ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنجوعنّ ، وإنما نصيب على ظهر دوابنا فربّما احتاجوا مع ذلك إلى تحليل المحرم أو غيره من الأشهر الحرم لحرب تكون بينهم فيكرهون استحلاله ويستحلون المحرم .

وكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرّمون صفر ، وهم يريدون به المحرم ويقولون : هو أحد الصفرين ، وقد تأوّل بعض الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم : ولا صفر ، على هذا ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير الصفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخيرالمحرم ، فيؤخّرون تحريمه إلى ربيع ، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ، ثم يحتاجون إلى مثله ، ثم كذلك فكذلك يتدافع شهراً بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلّها ، فقام الإسلام قد رجع المحرم إلى وضعه الذي وضعه الله عز وجل وذلك بعد عمر طويل .

وقال مجاهد : كان المشركون يحجّون في كل شهر عامين ، فحجّوا في ذي الحجة عامين ، ثم حجّوا في المحرم عامين ، ثم حجوا في صفر عامين ، وكذلك في الشهور التي وافقت حجة أبي بكر التي حجها قبل حجة الوداع السنة الثانية من ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل حجة الوداع فوافقت ذي الحجة ، فذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته : " ألا إن الزمان قد ابتدأ فدعيت يوم خلق السموات والأرض إن السنة إثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب الذي بين جمادى وشعبان " .

أراد صلى الله عليه وسلم أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء .

واختلفوا في أول من نسأ ، فقال ابن عباس وقتادة والضحاك : أوّل من نسأ بنو مالك بن كنانة وكان ( يليه ) أبو ثمامة عبادة بن عوف بن أمية الكناني ، كان يوافي الموسم كل عام على حمار فيقول : أيّها الناس إني أُحدّث ولا أخاف ولا مردّ لما أقول . إنّا قد حرمنا المحرم ، وأخّرنا صفر ، ثم يجيء العام المقبل فيقول : إنّا قد حرّمنا صفر وأخّرنا المحرم .

وقال الكلبي : أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة ، وكان يكون قبل الناس بالموسم ، وإذا همّ الناس بالصّدر قام فخطب الناس فقال : لا مردّ لما قضيت ، أنا الذي لا أغاب ولا أخاب فيقول له المشركون : لبيك ، ثم يسألهم أن ينسئهم شهراً يغيّرون فيه ، فيقول : إن القتال العام حرام ، وإذا قال ذلك حلّوا الأوتار وقرعوا الأسنّة والأزجّة ، وإن قال : حلال عقدوا الأوتار وشددوا الأزجّة وأغاروا على الناس .

[ وقيل بعد ] نعيم بن ثعلبة رجل يقال له : جنادة بن عوف وهو الذي أدركه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .

جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أوّل من نسأ النسيء عمرو بن لحي بن بلتعة بن خندف ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو رجل من بني كنانة يقال له القملّس في الجاهلية ، وكان أهل الجاهلية لايغير بعضهم على بعض في الأشهر الحرم ، يلقي الرجل قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له فيقول قائلهم : اخرجوا بنا فيقال له : هذا المحرم ، فيقول القملّس : إني قد نسأته العام صفران ، فإذا كان العام المقبل قضينا فجعلناهما محرمين ، وقال [ . . . . . . . . . . . . . ] وقال الكميت :

ألسنا الناسئين على معدٍّ *** شهور الحلّ نجعلها حراما

فهو النسيء الذي قال الله تعالى : إنما النسيء زيادة { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ } قرأ أهل المدينة وعاصم وأبو عمرو يَضِل بفتح الياء وكسر الضاد ، واختاره أبو حاتم لأنه ضمّ الضالون لقوله { بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } وقرأ أبو رجاء والحسن وأبو عبد الرحمن وقتادة ومجاهد وابن محيصن : يضل مكسورة الضاد ، ولها وجهان : أحدهما أن يكون { الَّذِينَ كَفَرُواْ } في محل النصب أي يضل الله به الذين كفروا .

والوجه الثاني أن يكون { الَّذِينَ } في محل رفع على معنى يُضِل به الذين كفروا الناس المفسدين منهم ، وقرأ أهل الكوفة : يُضل بضم الياء وفتح الضاد وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيدة لقوله زُيّن لهم سوء أعمالهم ويحلّونه يعني النسيء عاماً ويحرّمونه عاما { لِّيُوَاطِئُواْ } ليوافقوا ، قال ابن عباس : ليشبهوا ، قال المؤرّخ : هو أنهم لم يحلّوا شهراً من الحرم إلا حرّموا مكانه شهراً من الحلال ، ولم يحرّموا شهراً من الحلال إلاّ أحلوا مكانه شهراً من الحرم لئلاّ تكون الحرم أكثر من أربعة أشهر ممّا حرم الله فيكون موافقاً للعدد ، فذلك المراد .

{ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .