{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ } يعني العلماء والقرّاء من أهل الكتاب ، { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } أي يأخذون الرشوة في أحكامهم ، ويحرّفون كتاب الله ويكتبون بأيديهم كتباً يقولون : هذه من عند الله ، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم ، وهي المآكل التي كانوا يصيبونها منهم على تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو آمنوا به لذهبت عنهم تلك المآكل { وَيَصُدُّونَ } ويصرفون الناس ويمنعونهم { عَن سَبِيلِ اللَّهِ } دين الله . { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } يعني ويأكلون أيضاً بالباطل الذين يكنزون الذهب والفضة .
سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الحسن المظفر بن محمد بن غالب الهمذاني يقول : سمعت إبراهيم بن محمد بن عرفة الايجي بن نفطويه يقول : سمّي ذهباً لأنه يذهب فلا يبقى ، وسمّيت فضة لأنها تنفض أي تتفرق ولا تبقى ، وحسبك الأسمان دلالة على فنائهما ، والله أعلم فيها .
واختلف العلماء في معنى الكنز : فروى نافع عن ابن عمر قال : كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لم يؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض .
ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدّي ، ويدلّ عليه ماروي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز .
وقال سعيد بن المسيب : سأل عمر رجلاً عن أرض باعها فقال : [ أحسن موضع هذا المال ؟ فقال : أين أضعه ؟ ] قال : أُحفر تحت فراش امرأتك . فقال : يا أمير المؤمنين أليس بكنز ، قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كل مازاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز ، أدّيت منه الزكاة أم لم تؤدِّ ، ومادونها نفقة .
وقال عن الوليد بن زيد : كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز .
منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تبّاً للذهب وتبّاً للفضة " يقولها ثلاثاً : فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المهاجرون : فأي المال نتّخذ ؟ فقال عمر : فإنّي أسال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال : فأدركته فقلت : يارسول الله إن المهاجرين قالوا : أي المال نتّخذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه " " .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا محمد بن عبدل ، حدّثنا الأعمش عن ( المعرور ) بن سويد " عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبال الكعبة فلمّا رآني قد أقبلت قال : هم الأخسرون وربّ الكعبة ، هم الأخسرون وربّ الكعبة ، هم الأخسرون وربّ الكعبة .
قال : فدخلني غمّ وما أقدر أن أتنفس قلت : هذا شيء حدث فيَّ ، قلت : مَن هم فداك أبي وأمي ؟ قال : المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن [ . . . . . . . . . . ] كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز [ . . . . . . . . . . ] من ترك خير الشيء فهي له يوم القيامة " .
وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال : من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء ، وعن سلمان بن ثروان قال : سمعت عمار بن ياسر يقول : إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها ، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلمّا أعطوها كفروا بها ، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها ، فقال رجل نكنزها ( وقد سمعنا ) قوله ؟ قال : نعم ، ويقتل عليه بعضكم بعضاً ، وقال شعبة : كان فصّ سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر ، وقال : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك صفراء وبيضاء كوي بها " .
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة صديّ بن عجلان قال : " إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كيّة " ، ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه السلام : " كيّتان " " .
وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول ، لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال . يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه ، ومن زاد فهو خير له " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " .
وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال : من كنزها ولم يؤدّ زكاتها فويل له . ثم قال : لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده أزّكيه وأعمل بطاعة الله عز وجل .
أما أصل الكنز في كلام العرب : كل شيء مجموع بعضه على بعض ، على ظهر الأرض كان أو في بطنها . يدلّ على ذلك قول الشاعر :
لا درّي إن أطعمت نازلهم [ قرف الحتي ] وعندي التبر مكنوز . أراد : مجموع بعضه إلى بعض والحتي : مذر المقل ، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع : مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض .
قرأ يحيى بن عمر يكنزون بضم النون ، وقراءة العامة بالكسر ، وهما لغتان مثل يعكُفون ويعكِفون ، ويعرُشون ويعرِشون { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ولم يقل فينفقونهما ، اختلف النحاة فيه ، قال قطرب : أراد الزكاة أو الكنوز أو [ . . . . . ] الذهب والفضة ، وقال الفرّاء : استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه ، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم ، قال الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك راض والرأي مختلف
وقال ابن الانباري : قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب [ أخص ] مثل قوله :{ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } [ البقرة : 45 ] ردّ الكناية إلى الصلاة لأنّها أعم ، وقوله :{ رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] ردّ الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.