القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلَىَ وَرَبّي لَتَأْتِيَنّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : ويستعجلك يا محمد الذين جحدوا قُدرة الله على إعادة خلقه بعد فنائهم بهيئتهم التي كانوا بها من قبل فنائهم من قومك بقيام الساعة ، استهزاء بوعدك إياهم ، وتكذيبا لخبرك ، قل لهم : بلى تأتيكم وربي ، قسما به لتأتينكم الساعة ، ثم عاد جلّ جلاله بعد ذكره الساعة على نفسه ، وتمجيدها ، فقال : عالِمِ الغَيْبِ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة : «عالِمُ الغَيْبِ » على مثال فاعل ، بالرفع على الاستئناف ، إذ دخل بين قوله : وَرَبّي ، وبين قوله : عالِمَ الغَيْبِ كلام حائل بينه وبينه . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفة والبصرة ، عالم على مثال فاعل ، غير أنهم خفضوا عالم ردّا منهم له على قوله وَرَبّي إذ كان من صفته . وقرأ ذلك بقية عامة قرّاء الكوفة : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على مثال فعّال ، وبالخفض ردّا لإعرابه على إعراب قوله وَرَبّي إذ كان من نعته .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن كلّ هذه القراءات الثلاث ، قراءات مشهورات في قرّاء الأمصار متقاربات المعاني ، فبأيتهنّ قرأ القارىء فمصيب غير أن أعجب القراءات في ذلك إليّ أقرأ بها : «عَلاّمِ الغَيْبِ » على القراءة التي ذكرتها عن عامة قرّاء أهل الكوفة فأما اختيار علام على عالم ، فلأنها أبلغ في المدح . وأما الخفض فيها فلأنها من نعت الربّ ، وهو في موضع الجرّ . وعنى بقوله : «عَلاّم الغَيْبِ » علام ما يغيب عن أبصار الخلق ، فلا يراه أحد ، إما ما لم يكوّنه مما سيكوّنه ، أو ما قد كوّنه فلم يُطلع عليه أحدا غيره . وإنما وصف جلّ ثناؤه في هذا الموضع نفسه بعلمه الغيب ، إعلاما منه خلقه أن الساعة لا يعلم وقت مجيئها أحد سواه ، وإن كانت جائية ، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للذين كفروا بربهم : بلى وربكم لتأتينكم الساعة ، ولكنه لا يعلم وقت مجيئها أحد سوى علام الغيوب ، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَلا يَعْزُبُ عَنْهُ لا يغيب عنه ، ولكنه ظاهر له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس في قوله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ يقول : لا يغيب عنه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : لا يَعْزُبُ عَنْهُ قال : لا يغيب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرّةٍ : أي لا يغيب عنه .
وقد بيّنا ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : مِثْقالُ ذَرّةٍ يعني : زنة ذرّة في السموات ولا في الأرض يقول تعالى ذكره : لا يغيب عنه شيء من زنة ذرّة فما فوقها فما دونها ، أين كان في السموات ولا في الأرض وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ يقول : ولا يعزب عنه أصغر من مثقال ذرّة وَلا أكْبَرُ منه إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ يقول : هو مثبت في كتاب يبين للناظر فيه أن الله تعالى ذكره قد أثبته وأحصاه وعلمه ، فلم يعزب عن علمه .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } .
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعراً بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى : { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } [ المرسلات : 25 ، 26 ] وقال : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] ، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها مومياً إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة ، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله : { وله الحمد في الآخرة } [ سبأ : 1 ] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة ، فكان التخلص بقوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } ، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام . ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطراداً واعتراضاً ، وتقدم آنفاً ما قيل : إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة .
وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعَلَم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين .
و { الساعة } : عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر .
وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت ، لأن وقوعها هو إتيانها .
وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس .
ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإِبطال المؤكد على عادة إرشاد القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد .
و { بلى } حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير ( بل ) أو مركب من ( بل ) وألف زائدة ، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثُمّة ورُبّة ، لكن { بلى } حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفاً و ( بل ) يجاب به الإِثبات والنفي وهو عاطف ، وتقدم الكلام على { بلى } عند قوله تعالى : { بلى من كسب سيئة } في سورة البقرة ( 81 ) .
وأكد ما اقتضاه { بلى } من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإِقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين .
وعُدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون : لَتأتينَّا ، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول ، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال : أتاكم العدوّ ، وأتاك أتاك اللاّحقون ، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب .
وفعل ( أتى ) يرد كثيراً في معنى حلول المكروه مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] و { فأتاهم العذاب } [ الزمر : 25 ] و { يوم يأتي بعض آيات ربك } [ الأنعام : 158 ] ، وقول النابغة :
فلتأتينك قصائد وليدفعَن *** جيشاً إليك قوادم الأكوار
ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل ( أتى ) بحرف ( على ) فيقولون : أتى على كذا ، إذا استأصله . ويكثر في غير ذلك استعمال فعل ( جاء ) ، وقد يكون للمكروه نحو { وجاءهم الموج من كل مكان } [ يونس : 22 ] .
{ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كتاب مبين } .
{ عالمُ الغيب } خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله : { وهو الحكيم الخبير } [ سبأ : 1 ] في قراءة من قرأه بالرفع ، وصفة ل { ربي } المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكرَه مناسبةُ تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس .
وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذُكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون .
والغيب تقدم في قوله : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] على معان ذكرت هنالك .
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب { عالمُ الغيب } بصيغة اسم الفاعل ، وبرفع { عالمُ } على القطع . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضاً ومجروراً على الصفة لاسم الجلالة في قوله : { ربّي } .
وقرأ حمزة والكسائي { علاّم } بصيغة المبالغة وبالجر على النعت . وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلاً سفسطائياً على أنها ليست بواقعة ، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله : { إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 1 ، 2 ] .
والعزوب : الخفاء . ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها . قرأ الجمهور بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى { لا يعزب عنه } : لا يعزب عن علمه . وقد تقدم في سورة يونس { وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } 61 ) .
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء { وإن كان مثقال حبة من خردل } ( 47 ) .
وأشار بقوله : { مثقال ذرة } إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رُفاتاً وتراباً فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها .
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلاً يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة . فإن عَدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالماً بمصير كل جزء ، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتُنفخ فيها أرواحها .
فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها ، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة ، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها ، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] ثم تنمو تلك الأجسام سريعاً فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا .
وانظر قوله تعالى : { يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } في سورة القمر ( 6 ، 7 ) ، وقوله : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } في سورة القارعة ( 4 ) فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البَيْض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تصير جراداً وتطير . ولهذا سمى الله ذلك البعث نَشْأة لأن فيه إنشاء جديداً وخلقاً معاداً وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع رُوح كل جسد إليه بعد تصويره بما سُمي بالنفخ فقال : { وإن عليه النشأة الأخرى } [ النجم : 47 ] وقال : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان } [ ق : 15 ، 16 ] الآية . أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل .
وأشار بقوله : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها ، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها .