القول في تأويل قوله تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النّسَآءِ الّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنّ غَيْرَ مُتَبَرّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لّهُنّ وَاللّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء ، فلا يحضن ولا يلدن واحدتهنّ قاعد . اللاّتي لا يَرْجُونَ نِكاحا يقول : اللاتي قد يئسن من البعولة ، فلا يطمعن في الأزواج . فَلَيْسَ عَلَيْهنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ يقول : فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ ، يعني جلابيبهنّ ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء الذي يكون فوق الثياب ، لا حرج عليهنّ أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء غير متبرّجات بزينة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : والقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ اللاّتي لا يَرْجُونَ نِكاحاوهي المرأة ، لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدِرع وخِمار وتضع عنها الجلباب ما لم تتبرّج لما يكره الله ، وهو قوله : فَلَيْسَ عَلَيْهنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ غَيْرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ ثم قال : وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ يعني : الجلباب ، وهو القِناع وهذا للكبيرة التي قد قعدت عن الولد ، فلا يضرّها أن لا تجلبب فوق الخمار . وأما كلّ امرأة مسلمة حرّة ، فعليها إذا بلغت المحيض أن تدنَى الجلباب على الخمار . وقال الله في سورة الأحزاب : يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وكان بالمدينة رجال من المنافقين إذا مرّت بهم امرأة سيئة الهيئة والزيّ ، حَسِب المنافقون أنها مزنية وأنها من بغيتهم ، فكانوا يؤذون المؤمنات بالرفث ، ولا يعلمون الحرّة من الأمة فأنزل الله في ذلك : يا أيّها النّبِيّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ يقول : إذا كان زِيهنّ حسنا لم يطمع فيهنّ المنافقون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، في قوله : وَالقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ التي قعدت من الوَلد وكِبرت . قال ابن جُرَيج : قال مجاهد : اللاتي لا يَرْجُونَ نِكاحا قال : لا يردنه . فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : جلابيبهنّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : والقَوَاعِدُ مِنَ النّساءِ اللاّتي لا يَرْجُونَ نِكاحا فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ غيرَ مُتَبَرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال : وضع الخمار ، قال : التي لا ترجو نكاحا ، التي قد بلغت أن لا يكون لها في الرجال حاجة ولا للرجال فيها حاجة فإذا بلغن ذلك وضعن الخمار غير متبرّجات بزينة . ثم قال : وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ كان أبي يقول هذا كله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى وعبد الرحمن ، قالا : حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مَرْثَد ، عن ذرّ ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، في قوله : فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : الجلباب أو الرداء . شكّ سفيان .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله : لَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : الرداء .
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : قال عبد الله في هذه الآية : فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : هي المِلْحَفة .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، قال : سمعت أبا وائل قال : سمعت عبد الله يقول في هذه الآية : فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : الجلباب .
حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، قال : أخبرني الحَكَم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن الثّوري ، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن ابن مسعود ، في قوله : أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال : هو الرداء .
قال الحسن ، قال : عبد الرزاق ، قال الثوريّ : وأخبرني أبو حصين وسالم الأفطس ، عن سعيد بن جُبير ، قال : هو الرداء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبيّ : أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال : تضع الجلباب المرأة التي قد عجزت ولم تزوّج . قال الشعبيّ : فإن أُبيّ بن كعب يقرأ : «أنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيابِهِنّ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : قلت لابن أبي نجيح ، قوله : فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ قال : الجلباب . قال يعقوب ، قال أبو يونس : قلت له : عن مجاهد ؟ قال : نعم ، في الدار والحجرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَلَيْسَ عَلَيْهِنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ قال : جلابيبهنّ .
وقوله : غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ يقول : ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يُرِدن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال . والتبرّج : هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره .
وقوله : وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ يقول : وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ ، فيلبسنها ، خير لهنّ من أن يضعنها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : أنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ قال : أن يلبسن جلابيبنّ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغِيرة ، عن الشعبيّ : وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيرٌ لَهُنّ قال : ترك ذلك ، يعني ترك وضع الثياب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ والاستعفاف : لبس الخِمار على رأسها ، كان أبي يقول هذا كله .
وَاللّهُ سَمِيعٌ ما تنطقون بألسنتكم . عَلِيمٌ بما تضمره صدوركم ، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها ، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم ، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة .
وقوله : { والقواعد } ، يريد النساء اللائي قد أسنن وقعدن عن الولد واحدتهن قاعد . وقال ربيعة هي هنا التي تستقذر من كبرها ، قال غيره وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها مستمتع فلما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجل فيهن أبيح لهن ما لم يبح لغيرهن .
وأزيل عنهن كلفة التحفظ المتعب إذ علة التحفظ مرتفعة منهن ، وقرأ ابن مسعود «أن يضعن من ثيابهن » وهي قراءة أبي وروي عن ابن مسعود أيضاً «من جلابيبهن » ، والعرب تقول امرأة واضع للتي كبرت فوضعت خمارها ، ثم استثني عليهن في وضع الثياب أن لا يقصدن به التبرج وإبداء الزينة ، فرب عجوز يبدوا منها الحرص على أن يظهر لها جمال ونحو هذا مما هو أقبح الأشياء وأبعده عن الحق ، و «التبرج » طلب البدو والظهور إلخ . . . . والظهور للعيون ومنه { بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] وأصل ذلك بروج السماء والأسوار ، والذي أبيح وضعه لهذه الصنيفة الجلباب الذي فوق الخمار والرداء ، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما ، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزمه الشباب من الستر أفضل لهن وخير ، وقرأ ابن مسعود «وأن يعففن » بغير سين ، ثم ذكر تعالى { سيمع } لما يقول كل قائل وقائلة ، { عليم } بمقصد كل أحد في قوله ، وفي هاتين الصفتين توعد ، وتحذير والله الموفق للصواب برحمته .
هذه الآية مخصّصة لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } إلى قوله : { على عورات النساء } [ النور : 31 ] .
ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم ، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساءُ المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن ، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن . فعن ابن مسعود وابن عباس : الثياب الجلباب ، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار . وقال السدي : يجوز لهن وضع الخمار أيضاً .
والقواعد : جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل : حامل وحائض لأنه وصف نُقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض . استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيضُ من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصّاً بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله : { اللاتي لا يرجون نكاحاً } ، وذلك من الكبر .
وقوله : { اللاتي لا يرجون نكاحاً } وصف كاشف ل { القواعد } وليس قيداً .
واقترن الخبر بالفاء في قوله { فليس عليهن جناح } لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية ، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] . ولا حاجة إلى ادعاء أن ( ال ) فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين . و { أن يضعن } متعلق ب { جناح } بتقدير ( في ) .
والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص .
والوضع : إناطة شيء على شيء ، وأصله أن يعدى بحرف ( على ) وقد يعدى بحرف ( عن ) إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل ( ترغبون ) في قوله تعالى : { وترغبون أن تنكحوهن } في سورة النساء ( 127 ) ، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب . وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن . e فلما كان في الأمر بضرب الخُمُر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة على النساء المأمورات اقتضاها سد الذريعة ، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله ، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة .
ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله : { وأن يستعففن خير لهن } .
والاستعفاف : التعفف ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب ، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو { غير متبرجات بزينة } أي وضعاً لا يقارنه تبرج بزينة .
والتبرج : التكشف . والباء في { بزينة } للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهاراً لزينة كانت مستورة . والمراد : إظهار ما عادة المؤمنات ستره . قال تعالى : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [ الأحزاب : 33 ] ، فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها ، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها ، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن عيوبها بالنظر في محاسن زينتها .
فالتبرج بالزينة : التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة ، قال بشار :
وإذا خرجتتِ تقنَّعي *** بالحُمْر إن الحسن أحمر
وسألت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمايم ( أي حقاق من فضة توضع فيها تمايم ومعاذات تعلقها المرأة ) والقرطين والخَلخَال وخاتم الذهب ورقاق الثياب فقالت : « أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرَّماً » . فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف ، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص ( غير عربية ) . وفي « الموطإ » : « دخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصة خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خماراً كثيفاً » أي شقته لئلا تختمر به فيما بعد .
وقيل : إن المعنيَّ بقوله : { غير متبرجات بزينة } غير منكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق ، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن ، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها ، فيؤول المعنى ، إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن ، ويكون تأكيداً لما تقدم في قوله تعالى : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } [ النور : 31 ] أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعاً مجرداً عن قصد ترغيب فيهن .
وجملة : { والله سميع عليم } مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعاً ، فوصف « السميع » تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسهن من المقاصد ، ووصف « العليم » تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والقواعد} عن الحيض {من النساء} يعني: المرأة الكبيرة التي لا تحيض من الكبر {التي لا يرجون نكاحا} يعني: تزويجا {فليس عليهن جناح} يعني: حرج {أن يضعن ثيابهن} في قراءة ابن مسعود:"من ثيابهن" وهو الجلباب الذي يكون فوق الخمار {غير متبرجات بزينة} لا تريد بوضع الجلباب أن ترى زينتها يعني: الحلي، قال عز وجل: {وأن يستعففن} ولا يضعن الجلباب {خير لهن} من وضع الجلباب {والله سميع عليم}..
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واللواتي قد قعدن عن الولد من الكبر من النساء، فلا يحضن ولا يلدن... "اللاّتي لا يَرْجُونَ نِكاحا "يقول: اللاتي قد يئسن من البعولة، فلا يطمعن في الأزواج.
"فَلَيْسَ عَلَيْهنّ جُناحٌ أنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنّ: يقول: فليس عليهنّ حرج ولا إثم أن يضعن ثيابهنّ، يعني جلابيبهنّ، وهي القناع الذي يكون فوق الخمار، والرداء الذي يكون فوق الثياب، لا حرج عليهنّ أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء غير متبرّجات بزينة...
وقوله: "غيرَ مُتَبرّجاتٍ بِزِينَةٍ "يقول: ليس عليهنّ جناح في وضع أرديتهنّ إذا لم يُرِدن بوضع ذلك عنهنّ أن يبدين ما عليهنّ من الزينة للرجال. والتبرّج: هو أن تظهر المرأة من محاسنها ما ينبغي لها أن تستره.
وقوله: "وأنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنّ" يقول: وإن تعففن عن وضع جلابيبهنّ وأرديتهنّ، فيلبسنها، خير لهنّ من أن يضعنها...
"وَاللّهُ سَمِيعٌ" ما تنطقون بألسنتكم، "عَلِيمٌ" بما تضمره صدوركم، فاتقوه أن تنطقوا بألسنتكم ما قد نهاكم عن أن تنطقوا بها، أو تضمروا في صدوركم ما قد كرهه لكم، فتستوجبوا بذلك منه عقوبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"لا يرجون" أي لا يطمعن أن يرغب فيهن الرجال لكبرهن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمراد بالثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار. {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} غير مظهرات زينة، يريد: الزينة الخفيفة...فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت: تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{والقواعد} وهو جمع قاعد من صفات الإناث...
سُميِّن بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والقواعد} وحقق الأمر بقوله: {من النساء} جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج. ولما كان هذا الأخير قطبها قال: {اللاتي لا يرجون نكاحاً} أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه {فليس عليهن جناح} أي شيء من الحرج في {أن يضعن ثيابهن} أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال... {وأن يستعففن} أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار {خير لهن} من الإلقاء المذكور.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وأصلُ التَّبرجِ التَّكلُّفُ في إظهارِ ما يَخْفى من قولِهم: سفينةٌ بارجةٌ لا غطاءَ عليها والبَرَجُ سعةُ العينِ بحيث يُرى بياضُها محيطاً بسوادِها كلِّه إلا أنَّه خُصَّ بكشفِ المرأةِ زينتَها ومحاسنَها للرِّجال.
{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بترك الوضعِ {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضعِ لبُعده من التُّهمَة {والله سَمِيعٌ} مبالغٌ في سمعِ جميعِ ما يُسمع فيسمعُ ما يَجري بينهنَّ وبين الرِّجالِ من المقاولةِ {عَلِيمٌ} فيعلم مقاصدهنَّ وفيه من التَّرهيبِ ما لا يخفى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهؤلاء القواعد لا حرج عليهن أن يخلعن ثيابهن الخارجية، على ألا تنكشف عوراتهن ولا يكشفن عن زينة. وخير لهن أن يبقين كاسيات بثيابهن الخارجية الفضفاضة. وسمي هذا استعفافا. أي طلبا للعفة وإيثارا لها، لما بين التبرج والفتنة من صلة؛ وبين التحجب والعفة من صلة.. وذلك حسب نظرية الإسلام في أن خير سبل العفة تقليل فرص الغواية، والحيلولة بين المثيرات وبين النفوس.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في هذه الآية تجويز للنساء اللاتي قعدن في بيوتهن، ولم يكن لهن رجاء في زواج ولا يرغب في نكاحهم بطرح ثيابهن الزائدة وعدم التشدد في التستر على شرط أن لا يكون ذلك بقصد إبراز الزينة وأماكنها. وتقرير بأن احتشامهن في اللباس على كل حال هو خير لهن وأفضل.
والقواعد: جمع قاعد لا قاعدة، قاعدة تدل على الجلوس، أما القاعد ذكرا أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة، ولم يعد له مهمة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يعد فيهن إربة ولا مطمع؛ لذلك لا مانع أن يتخففن بعض الشيء من اللباس الذي فرض عليهن حال وجود الفتنة.لكن هذه المسألة مقولة بالتشكيك: نسبية يعني: فمن النساء من ينقطع حيضها ويدركها الكبر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة؛ لذلك ربنا- تبارك وتعالى – وضع لنا الحكم الاحتياطي {فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أخذا بهذه الرخصة، ثم تضع الزينة وتتبرج. ونخشى أن نعلم النساء هذا الحكم فلا يأخذن به حتى لا نقول عنهن: إنهن قواعد!!
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} أي يطلبن مواقع العفة ومظاهرها، بالاحتجاب الذي يبعد الجسد عن الرؤية التي قد توحي بالشهوة، وإن كان ذلك أمام الأشخاص الذين لا يعيشون المشاعر الطبيعية في العلاقات الجنسية، فيرغبون بمن لا يُرغب بها في الحالات العادية...