اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلۡقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا يَرۡجُونَ نِكَاحٗا فَلَيۡسَ عَلَيۡهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعۡنَ ثِيَابَهُنَّ غَيۡرَ مُتَبَرِّجَٰتِۭ بِزِينَةٖۖ وَأَن يَسۡتَعۡفِفۡنَ خَيۡرٞ لَّهُنَّۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (60)

قوله{[10]} : { والقواعد مِنَ النساء } . القواعدُ : من غير تاء تأنيث ، ومعناه : القواعدُ عن النكاح ، أو عن{[11]} الحيض ، أو عن{[12]} الاستمتاع ، أو عن الحبل ، أو عن الجميع{[13]} ولولا تخصيصهُنَّ بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف{[14]} .

وقوله : «مِنَ النِّسَاءِ » وما بعده بيان لهن . و «القَوَاعِدُ » مبتدأ ، و «مِنَ النِّسَاءِ » حال ، و «اللاَّتِي » صفة القواعد لا للنساء ، وقوله : «فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ » ، الجملة خبر المبتدأ{[15]} ، وإنما دخلت الفاء لأن المبتدأ موصوف بموصول ، لو كان ذلك الموصول مبتدأ لجاز دخولها في خبره ، ولذلك منعت أن تكون «اللاتي » صفة للنساء ، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ{[16]} .

وقال أبو البقاء : ودخلت الفاءُ لما{[17]} في المبتدأ{[18]} من معنى الشرط ، لأن الألف واللام بمعنى الذي{[19]} وهذا مذهب الأخفش ، وتقدم تحقيقه في المائدة{[20]} ، ولكن هنا ما يُغني عن ذلك ، وهو وصف المبتدأ بالموصول المذكور ، و «غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ » حال من «عليهن »{[21]} . ( والتَّبرُّجُ الظهور من البُرْج ){[22]} وهو البناء الظاهر ، والتبرج : سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها كله ، لا يغيب منه شيء والتبرج : إظهار ما يجب إخفاؤه بأن تكشف المرأة للرجال ( بإبداء ) زينتها وإظهار محاسنها{[23]} . و «بزينة » متعلق به . قوله : «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ » مبتدأ بتأويل : «اسْتِعْفَافُهُنَّ » ، و «خَيْرٌ » خبره .

فصل

قال المفسرون : القواعد : هن اللواتي قعدن عن الحيض والولد من الكبر ، ولا مطمع{[24]} لهن في الأزواج .

والأولى ألا يعتبر قعودهن عن الحيض ، لأن ذلك ينقطع ، والرغبة فيهن باقية ، والمراد : قعودهن عن الأزواج ، ولا يكون ذلك إلا عند بلوغهن إلى حيث لا يرغب فيهن الرجال لكبرهن{[25]} قال ابن قتيبة : سميت المرأة قاعداً إذا كبرت ، لأنها تكثر{[26]} القعود{[27]} وقال ربيعة : هنَّ العجز{[28]} اللواتي إذا رآهنَّ الرجل استقذرهن{[29]} ، فأما من كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية{[30]} . { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } عند الرجال ، يعني : يضعن بعض ثيابهن ، وهي الجلباب ، والرداء الذي فوق الثياب ، والقناع الذي فوق الخمار ، فأما الخمار فلا يجوز وضعه{[31]} لما فيه من كشف العورة .

وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب : { أن يضعن من ثيابهن }{[32]} . وروي عن ابن عباس أنه قرأ : { أن يضعن جلابيبهن }{[33]} . وعن السدي عن شيوخه : أن يضعن خمرهن عن رؤوسهن{[34]} وإنما خصهن الله بذلك لأن التهم مرتفعة عنهن ، وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهنّ وضع الثياب ، ولذلك قال : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } وإنما جعل ذلك أفضل لأنه أبعد عن الظنة{[35]} ، فعند الظنة يلزمهن ألا يضعن ذلك كما يلزم الشابة{[36]} ، والله سميع عليم .


[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.