التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَٱلۡقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّـٰتِي لَا يَرۡجُونَ نِكَاحٗا فَلَيۡسَ عَلَيۡهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعۡنَ ثِيَابَهُنَّ غَيۡرَ مُتَبَرِّجَٰتِۭ بِزِينَةٖۖ وَأَن يَسۡتَعۡفِفۡنَ خَيۡرٞ لَّهُنَّۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (60)

قوله : ( والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا ) القواعد ، جمع قاعد . وهي التي قعدت عن النكاح للكبر . أو التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها . وحذفت منها الهاء ؛ ليدل حذفها على أنه قعود الكبر . والمعنى : أن النساء اللاتي يئسن من البعولة فلا يطمعن في الأزواج ( فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن ) أي ليس عليهن حرج ولا إثم في وضع جلابيبهن وهي القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء . لا إثم على المرأة الكبيرة التي لا تتشوّف للبعل أو النكاح أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عنها الجلباب عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء ؛ لأنها في مثل هذا السن تغيب من حولها الفتنة لزهدها في النكاح من أجل كبرها ، ولانتفاء الرغبة فيها لدى الرجال .

قوله : ( غير متبرجات بزينة ) ( غير ) ، منصوب على الحال . و ( متبرجات ) ، من التبرج وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال{[3289]} والمعنى : لا يبتغين بوضع الجلباب إظهار الزينة لينظر إليهن . وهذا كله في حق القواعد من النساء وهن في البيوت . أما إذا خرجن فلا يحل لهن وضع الجلابيب .

وفي كل الأحوال فإن الأفضل استعفافهن عن وضع الثياب وهي الجلابيب ، والتزامهن من اللباس ما يلزم غير القواعد من كامل الثياب . فإن ذلك أكرم لهن وأفضل ، وهو قوله : ( وأن يستعففن خير لهن ) أي عدم وضعهن الجلابيب –وإن كان ذلك جائزا- خير لهن وأفضل ؛ لكونه أبعد من التهمة وأقطع لقالة السوء أن يتعرضوا لهن بقبيح القول أو الإشارة ( والله سميع عليم ) الله يسمع ما يجري من حديث وما تنطق به الألسن من قول مريب . وهو سبحانه عليم بمقاصد النساء من وضع الجلابيب . عليم بما تخفيه القلوب من أسرار .

على أنه من ظواهر التبرج أن تلبس المرأة ثوبا رقيقا يصفها أو يكشف عما بداخله من جلدها أو شعرها ، وذلكم حرام ، بل إن ذلك من المحظورات التي شدد عليها الإسلام النكير . لما في ذلك من فتنة تغوي الرجال وتستهويهم للاسترخاء والسقوط . وفي ذلك روى الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " صنفان من أهل النار لم أرهما : قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخْت المائلة ، لا يدخلن الجنة ، ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " وقد جعلهن كاسيات ؛ لأن الثياب عليهن . ووصفن بالعاريات ؛ لأن الثوب إذ رقّ فإنه يصفهن ويبدي محاسنهن ، وذلك حرام . وهو قول ابن العربي .

فكيف إذا خرجت النساء على الملأ من الأجانب والغرباء وهن حاسرات الثياب وقد بدت فيهن بعض أجسادهن للعيان ، كالأذرع والسيقان والشعور وغير ذلك مما يحرم ظهوره البتة . أما قوله : " كأسنمة البخت " أسنمة ، جمع سنام ، والبخت ، نوع من الإبل . والواحد بختي ، ويجمع أيضا على البخاتي{[3290]} ؛ فقد شبه رؤوس النساء الكاسيات العاريات بأسنمة الإبل لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رؤوسهن . وهو ما نجده اليوم في كثير من النساء ، ومنهن بعض المسلمات أو كثير منهن اللواتي غفلن عن أحكام دينهن ؛ إذا أذهلتهن الحضارة المادية الحديثة . الحضارة التي بنيت على الهوى والغريزة وعبادة الشهوات{[3291]} .


[3289]:- مختار الصحاح ص 46.
[3290]:- المصباح المنير جـ 1 ص 43.
[3291]:- أحاكم القرآن لابن العربي جـ3 ص 1384- 1389 وتفسير ابن كثير جـ3 ص 303، 304، وتفسير القرطبي جـ 12 ص 302- 310.