جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

القول في تأويل قوله تعالى : { لّيْسَ الْبِرّ أَن تُوَلّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلََكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىَ حُبّهِ ذَوِي الْقُرْبَىَ وَالْيَتَامَىَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّآئِلِينَ وَفِي الرّقَابِ وَأَقَامَ الصّلاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولََئِكَ الّذِينَ صَدَقُوآ وَأُولََئِكَ هُمُ الْمُتّقُونَ }

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ليس البرّ الصلاة وحدها ، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة . يقول : ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا ، فهذا منذ تحوّل من مكة إلى المدينة ، ونزلت الفرائض ، وحدّ الحدود ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : لَيْسَ البرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والمغرِبِ ولكنّ البرّ ما ثبت في القلوب من طاعة الله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس ، قال : هذه الآية نزلت بالمدينة : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرق وَالمَغْرِبِ يعني الصلاة ، يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . قال ابن جريج وقال مجاهد : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وجوهَكم قِبَل المشرِق والمغرِبِ يعني السجود ولكنّ البرّ ما ثبت في القلب من طاعة الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم أنه قال فيها ، قال يقول : ليس البرّ أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك . وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة ، فأنزل الله الفرائض وحدّ الحدود بالمدينة ، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها .

وقال آخرون : عنى الله بذلك اليهود والنصارى ، وذلك أن اليهود تصلي فتوجّه قبل المغرب ، والنصارى تصلي فتوجّه قبل المشرق ، فأنزل الله فيهم هذه الآية يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه ولكنه ما بيناه في هذه الآية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة ، قال : كانت اليهود تصلي قبل المغرب ، والنصارى تصلي قبل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَل المَشْرِق وَالمَغْرِبِ .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ ذكر لنا أن رجلاً سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه . وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجَى له ويطمع له في خير فأنزل الله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وكانت اليهود توجهت قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِر الآية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : كانت اليهود تصلي قِبَل المغرب ، والنصارى قِبَل المشرق ، فنزلت : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ .

وأولى هذين القولين بتأويل الآية القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس أن يكون عنى بقوله : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ اليهود والنصارى ، لأن الاَيات قبلها مضت بتوبيخهم ولومهم والخبر عنهم وعما أعدّ لهم من أليم العذاب ، وهذا في سياق ما قبلها ، إذ كان الأمر كذلك ، ليس البرّ أيها اليهود والنصارى أن يولي بعضكم وجهه قِبَل المشرق وبعضكم قِبَل المغرب ، وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتابِ الآية .

فإن قال قائل : فكيف قيل : وَلَكِنّ البِرّ مَنْ آمَنِ باللّهِ ، وقد علمت أن البرّ فعل ، و«مَنْ » اسم ، فكيف يكون الفعل هو الإنسان ؟ قيل : إن معنى ذلك غير ما توهمته ، وإنما معناه : ولكن البر كمن آمن بالله واليوم الاَخر ، فوضع «مَنْ » موضع الفعل اكتفاء بدلالته ودلالة صلته التي هي له صفة من الفعل المحذوف كما تفعله العرب فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة ، فتقول : «الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » و«إنما الجود حاتم ، والشجاعة عنترة » ، ومعناها : الجود جود حاتم ، فتستغني بذكر حاتم إذ كان معروفا بالجود من إعادة ذكر الجود بعد الذي قد ذكرته فتضعه موضع جوده لدلالة الكلام على ما حذفته استغناء بما ذكرته عما لم تذكره ، كما قيل : واسْألِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا والمعنى : أهل القرية ، وكما قال الشاعر ، وهو ذو الخِرَق الطهوي :

حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَناقا وَما هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بالعنَاقِ

يريد بغام عناق أو صوت ( عناق ) كما يقال : حسبت صياحي أخاك ، يعني به حسبت صياحي صياح أخيك . وقد يجوز أن يكون معنى الكلام : ولكن البارّ من آمن بالله ، فيكون البرّ مصدرا وضع موضع الاسم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليتَامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرّقابِ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وآتى المَالَ على حُبّهِ وأعطى ماله في حين محبته إياه وضنه به وشحه عليه . كما :

حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا ، عن زبيد ، عن مرة بن شراحيل البكيلي ، عن عبد الله بن مسعود : وآتى المَالَ على حُبّهِ أي يؤتيه وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قالا جميعا ، عن سفيان ، عن زبيد اليامي ، عن مرة ، عن عبد الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : وأنت حريص شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر .

حدثنا أحمد بن نعمة المصري ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا الليث ، قال : حدثنا إبراهيم بن أعين ، عن شعبة بن الحجاج ، عن زبيد اليامي ، عن مرة الهمداني ، قال : قال عبد الله بن مسعود في قول الله : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذوي القربى ، قال : حريصا شحيحا يأمل الغنى ويخشى الفقر .

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم ، عن الشعبي سمعته يسأل : هل على الرجل حق في ماله سوى الزكاة ؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى واليَتامَى وَالمَساكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وفِي الرّقابِ وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاة .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سويد بن عمرو الكلبي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : أخبرنا أبو حمزة قال : قلت للشعبي : إذا زكى الرجل ماله أيطيب له ماله ؟ فقرأ هذه الآية : لَيْسَ البِرّ أنْ تُوَلّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ إلى وآتى المَالَ على حُبّهِ إلى آخرها . ثم قال : حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت : يا رسول الله إن لي سبعين مثقالاً من ذهب ، فقال : «اجْعَلِيها فِي قَرابَتِكِ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، قال : حدثنا أبو حمزة فيما أعلم عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول : إن في المال لحقّا سوى الزكاة .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي حيان ، قال : حدثني مزاحم بن زفر ، قال : كنت جالسا عند عطاء ، فأتاه أعرابي فقال له : إن لي أبلاً فهل عليّ فيها حقّ بعد الصدقة ؟ قال : نعم قال : ماذا ؟ قال : عارية الذلول ، وطروق الفحل ، والحلب .

حدثني موسى بن هارون ، حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، ذكره عن مرة الهمداني في : وآتى المَالَ على حُبّهِ قال : قال عبد الله بن مسعود : تعطيه وأنت صحيح شحيح تطيل الأمل وتخاف الفقر . وذكر أيضا عن السدي أن هذا شيء واجب في المال حقّ على صاحب المال أن يفعله سوى الذي عليه من الزكاة .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا أسد ، قال : حدثنا سويد بن عبد الله ، عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بن قيس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «فِي المَال حَقّ سوَى الزّكاة » وتلا هذه الآية : لَيْسَ البِرّ إلى آخر الآية .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن زبيد اليامي ، عن مرة بن شراحيل ، عن عبد الله في قوله : ( وآتى المَالَ على حُبّهِ )قال : أن يعطى الرجل وهو صحيح شحيح به يأمل العيش ويخاف الفقر .

فتأويل الآية : وأعطى المال وهو له محبّ حريص على جمعه ، شحيح به ذوي قرابته فوصل به أرحامهم .

وإنما قلت : عنى بقوله : ذَوِي القُرْبَى ذوي قرابة مؤدّي المال على حبه للخبر الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمة بنت قيس ، وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل : أيّ الصدقة أفضل ؟ قال : «جُهْدُ المُقلّ على ذِي القَرَابَةِ الكاشِح » .

وأما اليتامى والمساكين فقد بينا معانيهما فيما مضى . وأما ابن السبيل فإنه المجتاز بالرجل .

ثم اختلف أهل العلم في صفته ، فقال بعضهم : هو الضيفُ من ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وابْنَ السّبِيلِ قال : هو الضيف قال : قد ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «مَنْ كانَ يُؤْمِنَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فَلْيقُلْ خَيْرا أوْ لِيَسْكُتْ » قال : وكان يقول : «حَقّ الضّيافَةِ ثَلاثُ لَيالٍ ، فَكُلّ شَيْءٍ أضَافَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَدقَةٌ » .

وقال بعضهم : هو المسافر يمرّ عليك . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن أبي جعفر : وابْنَ السّبِيل قال : المجتاز من أرض إلى أرض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وقتادة في قوله : وَابْنَ السّبِيلِ قال : الذي يمرّ عليك وهو مسافر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عمن ذكره ، عن ابن جريج ، عن مجاهد وقتادة مثله .

وإنما قيل للمسافر ابن السبيل لملازمته الطريق ، والطريق هو السبيل ، فقيل لملازمته إياه في سفره ابنه كما يقال لطير الماء ابن الماء لملازمته إياه ، وللرجل الذي أتت عليه الدهور ابن الأيام والليالي والأزمنة ، ومنه قول ذي الرمة :

وَرَدْتُ اعْتِسافا والثّرَيّا كأنّها *** على قِمّةِ الرأسِ ابْنُ ماءٍ مُحَلّقُ

وأما قوله وَالسّائِلِينَ فإنه يعني به : المستطعمين الطالبين . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، عن عكرمة في قوله : وَالسّائِلينَ قال : الذي يسألك .

وأما قوله : وَفِي الرّقابِ فإنه يعني بذلك : وفي فكّ الرقاب من العبودة ، وهم المكاتَبُون الذين يسعون في فكّ رقابهم من العبودة بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ والمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وأقامَ الصّلاةَ أدام العمل بها بحدودها ، وبقوله : وآتى الزّكاةَ أعطاها على ما فرضها الله عليه .

فإن قال قائل : وهل من حقّ يجب في مال إيتاؤه فرضا غير الزكاة ؟ قيل : قد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : فيه حقوق تجب سوى الزكاة واعتلوا لقولهم ذلك بهذه الآية ، وقالوا : لما قال الله تبارك وتعالى : وآتى المَالَ على حُبّهِ ذَوِي القُرْبَى ومن سمى الله معهم ، ثم قال بعد : وأقامَ الصّلاةَ وآتى الزّكاةَ علمنا أن المال الذي وصف المؤمنين به أنهم يؤتونه ذوي القربى ، ومن سمى معهم غير الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها لأن ذلك لو كان مالاً واحدا لم يكن لتكريره معنى مفهوم . قالوا : فلما كان غير جائز أن يقول تعالى ذكره قولاً لا معنى له ، علمنا أن حكم المال الأول غير الزكاة ، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره . قالوا : وبعد فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك .

وقال آخرون : بل المال الأول هو الزكاة ، ولكن الله وصف إيتاء المؤمنين من آتوه ذلك في أول الآية ، فعرّف عباده بوصفه ما وصف من أمرهم المواضع التي يجب عليهم أن يضعوا فيها زكواتهم ثم دلهم بقوله بعد ذلك : وآتى الزّكاة أن المال الذي آتاه القوم هو الزكاة المفروضة كانت عليهم ، إذ كان أهل سهمانها هم الذين أخبر في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم .

وأما قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا فإنه يعني تعالى ذكره : والذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة ، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه . كما :

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عاهَدُوا قال : فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة . وقد بينت العهد فيما مضى بما أغنى عن إعادته ههنا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَالّصابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ .

قد بينا تأويل الصبر فيما مضى قبل . فمعنى الكلام : والمانعين أنفسهم في البأساء والضرّاء وحين البأس مما يكرهه الله لهم الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته .

ثم قال أهل التأويل في معنى البأساء والضرّاء بما :

حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثني أبي ، وحدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قالا جميعا : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود أنه قال : أما البأساء فالفقر ، وأما الضرّاء فالسقم .

حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قالا جميعا : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء الجوع ، والضراء المرض .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : البأساء : الحاجة ، والضرّاء : المرض .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كنا نحدّث أن البأساء : البؤس والفقر ، وأن الضرّاء : السقم ، وقد قال النبيّ أيوب صلى الله عليه وسلم : أنّي مَسّنِيَ الضّرّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِين .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ قال : البؤس : الفاقة والفقر ، والضرّاء في النفس من وجع أو مرض يصيبه في جسده .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : البأساءِ وَالضراءِ قال : البأساء : البؤس ، والضرّاء : الزمانة في الجسد .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك ، قال : البأساء والضرّاء : المرض .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : وَالصّابِرينَ فِي البَأْساءِ وَالضّرّاءِ قال : البأساء : البؤس والفقر ، والضرّاء : السقم والوجع .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية : وَالصّابِرِينَ فِي البأساءِ وَالضّرّاءِ أما البأساء : الفقر ، والضرّاء : المرض .

وأما أهل العربية : فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : البأساء والضرّاء مصدر جاء على فعلاء ليس له أفعل لأنه اسم ، كما قد جاء أفعل في الأسماء ليس له فعلاء نحو أحمد ، وقد قالوا في الصفة أفعل ولم يجىء له فعلاء ، فقالوا : أنت من ذلك أوجل ، ولم يقولوا وجلاء . وقال بعضهم : هو اسم للفعل ، فإن البأساء البؤس ، والضرّاء الضر ، وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث وإن شئت لمذكر ، كما قال زهير :

فتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمانَ أشْأمَ كُلّهُمْ كأحْمَر عادٍ ثُمّ تُرْضِعْ فتَفْطِمِ

يعني فتنتج لكم غلمان شؤم .

وقال بعضهم : لو كان ذلك اسما يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث لجاز إجراء أفعل في النكرة ، ولكنه اسم قام مقام المصدر والدليل على ذلك قولهم : «لئن طلبت نصرتهم لتجدنهم غير أبْعَدَ » بغير إجراء وقال : إنما كان اسما للمصدر لأنه إذا ذكر علم أنه يراد به المصدر . وقال غيره : لو كان ذلك مصدرا فوقع بتأنيث لم يقع بتذكير ، ولو وقع بتذكير لم يقع بتأنيث لأن من سُمي بأفعل لم يصرف إلى فعلى ، ومن سُمي بفعلى لم يصرف إلى أفعل ، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره ، ولكنهما لغتان ، فإذا وقع بالتذكير كان بأمر أشأم ، وإذا وقع البأساء والضرّاء ، وقع الخلة البأساء والخلة الضراء ، وإن كان لم يبن على الضراء الأضر ولا على الأشأم الشأماء ، لأنه لم يرد من تأنيثه التذكير ولا من تذكيره التأنيث ، كما قالوا : امرأة حسناء ، ولم يقولوا : رجل أحسن ، وقالوا : رجل أمرد ، ولم يقولوا : امرأة مرداء ، فإذا قيل الخصلة الضراء والأمر الأشأم دل على المصدر ، ولم يحتج إلى أن يكون اسما ، وإن كان قد كفى من المصدر .

وهذا قول مخالف تأويل من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل البأساء والضراء وإن كان صحيحا على مذهب العربية ، وذلك أن أهل التأويل تأوّلوا البأساء بمعنى البؤس ، والضرّاء بمعنى الضرّ في الجسد ، وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجهوا البأساء والضراء إلى أسماء الأفعال دون صفات الأسماء ونعوتها . فالذي هو أولى بالبأساء والضراء على قول أهل التأويل أن تكون البأساء والضراء أسماء أفعال ، فتكون البأساء اسما للبؤس ، والضراء اسما للضر .

وأما الصابرين فنصبٌ ، وهو من نعت «مَنْ » على وجه المدح ، لأن من شأن العرب إذا تطاولت صفة الواحد الاعتراض بالمدح والذمّ بالنصب أحيانا وبالرفع أحيانا ، كما قال الشاعر :

إلى المَلِك القَرْم وَابْن الهُمام ولَيْثَ الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ

وذَا الرأي حِينَ تُغَمّ الأمُورُ بِذَات الصّلِيل وَذَات اللّجُمْ

فنصب ليث الكتيبة وذا الرأي على المدح ، والاسم قبلهما مخفوض لأنه من صفة واحد . ومنه قول الاَخر :

فَلَيْتَ الّتِي فِيها النّجومُ تَوَاضَعَت *** على كُلّ غَثَ مِنْهُمُ وَسمينِ

غُيُوثُ الَوَرى في كُلّ مَحْلٍ وأزْمَةٍ *** أُسُودُ الشّرَى يَحْمينَ كلّ عَرين

وقد زعم بعضهم أن قوله : وَالصّابِرِينَ فِي البَأساءِ نصب عطفا على السائلين ، كأن معنى الكلام كان عنده : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضراء .

وظاهر كتاب الله يدل على خطأ هذا القول ، وذلك أن الصابرين في البأساء والضراء هم أهل الزمانة في الأبدان وأهل الإقتار في الأموال ، وقد مضى وصف القوم بإيتاء من كان ذلك صفته المال في قوله : وَالَمساكينَ وَابْنَ السّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وأهل الفاقة والفقر هم أهل البأساء والضراء ، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء لم يكن ممن له قبول الصدقة ، وإنما له قبولها إذا كان جامعا إلى ضرائه بأساء ، وإذا جمع إليها بأساء كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة المساكين الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله : وَالصّابرِينَ في البأساء . وإذا كان كذلك ثم نصب الصابرين في البأساء بقوله : وآتى المالَ على حُبّهِ كان الكلام تكريرا بغير فائدة معنى ، كأنه قيل : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين ، والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عباده ، ولكن معنى ذلك : ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الاَخر ، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، والصابرين في البأساء والضراء . والموفون رفع لأنه من صفة «مَنْ » ، و«مَنْ » رفعٌ فهو معرب بإعرابه ، والصابرين نصب وإن كان من صفته على وجه المدح الذي وصفنا قبل .

القول في تأويل قوله تعالى : وَحِينَ البَأْسِ .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَحِينَ البأْسِ والصابرين في وقت البأس ، وذلك وقت شدة القتال في الحرب . كما :

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العبقري ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله في قول الله : وَحِينَ البأسِ قال : حين القتال .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَحِين البَأْسِ القتال .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : وَحِينَ البأّسِ أي عند مواطن القتال .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَحِين البَأْسِ القتال .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَحِينَ البَأْسِ عند لقاء العدوّ .

حدثني المثنى قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبيد ، عن الضحاك : وَحِينَ البأْسِ القتال .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : وَحِينَ البأْس قال : القتال .

القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ المُتّقُون .

يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا من آمن بالله واليوم الاَخر ، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية ، يقول : فمن فعل هذه الأشياء فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم ، لا من ولّى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره وينقض عهده وميثاقه ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه ويكذّب رسله .

وأما قوله : وأؤُلَئِكَ هُمُ المُتّقُون فإنه يعني : وأؤلئك الذين اتقوا عقاب الله فتجنبوا عصيانه وحذروا وعده فلم يتعدّوا حدوده وخافوه ، فقاموا بأداء فرائضه .

وبمثل الذي قلنا في قوله : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا كان الربيع بن أنس يقول .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا قال : فتكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقته العمل صدقوا الله . قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( 177 )

وقوله تعالى : { ليس البرُّ } الآية : قرأ أكثر السبعة برفع الراء ، و «البرُّ » اسم ليس ، قال أبو علي : «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول » .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : مذهب أبي علي أن { ليس } حرف ، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرَّ » بنصب الراء ، جعل { أن تولوا } بمنزلة المضمر ، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر ، والمضمر أولى أن يكون اسماً يخبر عنه( {[1593]} ) ، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود { ليس البرّ بأن تولوا } ، وقال الأعمش ، إن في مصحف عبد الله : ( لا تحسبن البر ) ( {[1594]} ) ، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الخطاب بهذه الآية للمؤمنين ، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها ، وقال قتادة والربيع : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي ، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس ، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها ، وقرأ الجمهور «ولكن البر » ( {[1595]} )والتقدير ولكن البر بر من ، وقيل : التقدير ولكن ذو البر من ، وقيل : { البر } بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من ، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف ، كقولك رجل عدل ورضى( {[1596]} ) .

والإيمان التصديق ، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع .

وقوله تعالى : { وآتى المال على حبه } الآية ، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة ، وبها كمال البر( {[1597]} ) ، وقيل هي الزكاة ، و { آتى } معناه أعطى ، والضمير في { حبه } عائد على { المال }( {[1598]} ) فالمصدر مضاف إلى المفعول ، ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول( {[1599]} ) ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة ، فإيتاء المال حبيب إليهم ، ويحتمل أن يعود على اسم الله تعالى من قوله : { من آمن بالله } أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته ، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في { آتى } أي على حبه المال ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، والمعنى المقصود : أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى ، كما قال صلى الله عليه وسلم( {[1600]} ) .

قال القاضي أبو محمد : والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى : { وأحضرت الأنفس الشح }( {[1601]} ) [ النساء : 128 ] ، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفاً بالشح الذي هو البخل ، و { ذوي القربى } يراد به قرابة النسب .

واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ ، وقال مجاهد وغيره : { ابن السبيل } المسافر لملازمته السبيل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة ابن زنى »( {[1602]} ) أي الملازم له ، وقيل : لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها ، وقال قتادة : { ابن السبيل } الضيف ، والأول أعم ، و { في الرقاب } : يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات ( واقام الصلاة } أتمها بشروطها ، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة ، و { الموفون } عطف على { من } في قوله : { من آمن } ، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون ، و { الصابرين } نصب على المدح أو على إضمار فعل ، وهذا مهيع( {[1603]} ) في تكرار النعوت ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين » على المدح أو على قطع النعوت ، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن { والموفون } «والصابرون » وقرأ الجحدري { بعهودهم } ، و { البأساء } الفقر والفاقة ، و { الضراء } المرض ومصائب البدن ، و { حين البأس } وقت شدة القتال .

هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة ، وتقول العرب : بئس الرجل إذا افتقر ، وبؤس إذا شجع .

ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول : صدقني المال وصدقني الربح ، ومنه عود صدق( {[1604]} ) ، وتحتمل اللفظة أيضاً صدق الإخبار ، ووصفهم الله تعالى بالتقى ، والمعنى هم الذي جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح .


[1593]:- توضيح ذلك أن (إنّ وصِلَتَهَا) شبيهة عندهم بالمضمر في كونها لا توصف كما لا يوصف المضمر – وكأنه قد اجتمع هنا مظهر ومضمر وإذ اجتمعا فالمضمر هو الاسم لأنه أعرف المعارف.
[1594]:- على ما قاله الأعمش يكون في مصحف عبد الله قراءتان – [ليس البرّ بأن تولّوا] [ولا تحسبنّ البرّ].
[1595]:- أي بتخفيف النون ورفع البر. تنبيه: في تكملة الإمام السيوطي رحمه الله هنا ما نصه: وقرئ بفتح الباء أي البارّ. انتهى. وهذه القراءة لا وجود لها فيما نعلم لا في المتواتر ولا في الشواذ، وقد قال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البر بفتح الباء، فلو كانت تلك القراءة موجودة ما قال المبرد هذا الكلام، والكمال لله تعالى – أفاده بعض شيوخنا.
[1596]:- يلاحظ أن هذا القول راجع إلى القول الأول، تأمل.
[1597]:- روى الترمذي، وبان ماجة، والدارقطني، عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في المال حق سوى الزكاة).
[1598]:- هذا أقوى وأصح لأنه أقرب مذكور، وحاصل الآراء في عود الضمير: المال، أو الإيتاء، أو الله، أو المعطي للمال.
[1599]:- يعني أنه وقع اعتراضا وفصلا بين المفعولين، وهو فصل بليغ لدلالته على أنه آثر غيره بشيء محبوب ومرغوب فيه، والإيثار من أعلى صفات الإيمان، ونظير هذه الآية قوله تعالى: [ويطعمون الطعام على حبّه] الآية.
[1600]:- رواه الشيخان، عن أبي هريرة – ولفظ مسلم. (أيّ الصدقة أعظم ؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان). وروى النسائي عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يُنفق أو يتصدق عند موته مثل الذي يهدي بعدما يشبع).
[1601]:- من الآية (128) من سورة (النساء).
[1602]:- رواه النسائي، وابن حبان، وأبو النعيم في الحلية، من حديث أبي هريرة، وزعم ابن الجوزي رحمه الله أنه حديث موضوع، وقال الحافظ ابن حجر: فسره العلماء على تقدير صحته بما إذا عمل بعمل أبويه، واتفقوا على أن الحديث لا يحمل على ظاهره، وقيل: إن واظب على ذلك، وهو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله بقوله: أي الملازم له.
[1603]:- أي طريق مألوف وموجود في كلام العرب لا مطعن فيه لأحد، قال أبو علي الفارسي: إذا كثرت الصفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تُجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف في إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا أو جملة واحدة. ا. هـ.
[1604]:- العود: البعير المُسِنُّ وصَدْقٌ على وزن فَلْسٍ أي صلب.