القول في تأويل قوله تعالى : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مثّل الله مثلاً للكافر بالله الذي يعبد آلهة شَتّى ، ويطيع جماعة من الشياطين ، والمؤمن الذي لا يعبُد إلا الله الواحد ، يقول تعالى ذكره : ضرب الله مثلاً لهذا الكافر رجلاً فيه شركاء . يقول : هو بين جماعة مالكين متشاكسين ، يعني مختلفين متنازعين ، سيئة أخلاقهم ، من قولهم : رجل شَكس : إذا كان سيىء الخلق ، وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه ومِلْكه فيه ، ورجلاً سَلَما لرجل ، يقول : ورجلاً خُلُوصا لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله ، لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَرَجُلاً سَلَما فقرأ ذلك بعض قرّاء أهل مكة والبصرة : «وَرَجُلاً سالِمَا » وتأوّلوه بمعنى : رجلاً خالصا لرجل . وقد رُوي ذلك أيضا عن ابن عباس .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن جرير بن حازم ، عن حميد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس أنه قرأها : «سالِمَا لِرَجُلٍ » يعني بالألف ، وقال : ليس فيه لأحد شيء .
وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة : وَرَجُلاً سَلَما لِرَجُلٍ بمعنى : صلحا .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب وذلك أن السّلَم مصدر من قول القائل : سَلِيم فلان لله سَلَما بمعنى : خَلَص له خُلوصا ، تقول العرب : ربح فلان في تجارته رِبْحا ورَبَحا ، وسَلِم سِلْما وسَلَما وسلامة ، وأن السالم من صفة الرجل ، وسلم مصدر من ذلك . وأما الذي توهمه من رغب من قراءة ذلك سَلَما من أن معناه صلحا ، فلا وجه للصلح في هذا الموضع ، لأن الذي تقدم من صفة الاَخر ، إنما تقدّم بالخبر عن اشتراك جماعة فيه دون الخبر عن حربه بشيء من الأشياء ، فالواجب أن يكون الخبر عن مخالفه بخلوصه لواحد لا شريك له ، ولا موضع للخبر عن الحرب والصلح في هذا الموضع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : «رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : هذا مثل إله الباطل وإله الحقّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال : هذا المشرك تتنازعه الشياطين ، لا يقرّبه بعضهم لبعض «وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ . . . إلى قوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قال : الشركاء المتشاكسون : الرجل الذي يعبد آلهة شتى كلّ قوم يعبدون إلها يرضونه ويكفرون بما سواه من الاَلهة ، فضرب الله هذا المثل لهم ، وضرب لنفسه مثلاً ، يقول : رجلا سَلِمَ لرجل يقول : يعبدون إلها واحدا لا يختلفون فيه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ قال : مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : «ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتشاكِسُونَ وَرَجُلاً سالِما لِرَجُلٍ » قال : أرأيت الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون كلهم سيىء الخلق ، ليس منهم واحد إلا تلقاه آخذا بطرف من مال لاستخدامه أسواؤُهم ، والذي لا يملكه إلا واحد ، فإنما هذا مثل ضربه الله لهؤلاء الذين يعبدون الاَلهة ، وجعلوا لها في أعناقهم حقوقا ، فضربه الله مثلاً لهم ، وللذي يعبده وحده هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ . وفي قوله : «وَرَجُلاً سالِمَا لِرَجُلٍ » يقول : ليس معه شرك .
وقوله : هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً يقول تعالى ذكره : هل يستوي مثلُ هذا الذي يخدمُ جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه ، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه ، يقول : فأيّ هذين أحسن حالاً وأروح جسما وأقلّ تعبا ونصبا ؟ كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس هَلْ يَسْتِويانِ مَثَلاً الحَمْدَ لِلّهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول : من اختُلف فيه خير ، أم من لم يُخْتلَف فيه ؟ .
وقوله : الحَمْدِ لِلّهِ يقول : الشكر الكامل ، والحمدُ التامّ لله وحده دون كلّ معبود سواه . وقوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يقول جل ثناؤه : وما يستوي هذا المشترك فيه ، والذي هو منفرد ملكه لواحد ، بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعلمون أنهما لا يستويان ، فهم بجهلهم بذلك يعبدون آلهة شتى من دون الله . وقيل : هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً ولم يقل : مثلين لأنهما كلاهما ضُربا مثلاً واحدا ، فجرى المثل بالتوحيد ، كما قال جلّ ثناؤه : وَجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمّهُ آيَةً إذ كان معناهما واحدا في الاَية . والله أعلم .
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملاً جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطراً وهو التوحيد ، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة ، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل ، فهو أبداً ناصب ، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها ، ومتى أرضى صنماً منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً تعب في ضلال ، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك ، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه ، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله .
وقوله : { ضرب } مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه ، ومنه قولهم : هذا ضرب هذا ، أي شبهه . و : { مثلاً } مفعول ب { ضرب } ، و : { رجلاً } نصب على البدل . قال الكسائي : وإن شئت على إسقاط الخافض . أي مثلاً لرجل أو في رجل ، وفي هذا نظر ، و : { متشاكسون } معناه : لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحادقة ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
خلقت شكساً للأعادي مشكسا . . .
من شاء من حر الجحيم استقبسا . . .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «سالماً » ، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه . قال أبو عمرو معناه : خالصاً ، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه . وقرأ الباقون : «سَلَماً » ، بفتح السين اللام ، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف . وقرأ سعيد بن جبير : «سِلْماً » ، بكسر السين وسكون اللام ، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له
ثم وقف الكفار بقوله : { هل يستويان مثلاً } ونصب { مثلاً } على التمييز ، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان ، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا ، فقال : { الحمد لله } أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم . ثم قال تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى ، تقديره : الحمد لله على ظهور الحجة ، وأن الأمر ليس كما يقولون { بل أكثرهم لا يعلمون } . و «أكثر » في هذه الآية على بابها ، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.