القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّعَلّهُمْ بِلِقَآءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ ثم قل بعد ذلك يا محمد : آتى ربك موسى الكتاب . فترك ذكر «قل » ، إذ كان قد تقدم في أوّل القصة ما يدلّ على أنه مراد فيها ، وذلك قوله : قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ فقصّ ما حرّم عليهم وأحلّ ، ثم قال : ثم قل : آتينا موسى ، فحذف «قل » لدلالة قوله : «قل » عليه ، وأنه مراد في الكلام .
وإنما قلنا ذلك مراد في الكلام ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لا شكّ أنه بعث بعد موسى بدهر طويل وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الاَيات على من أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه ، ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدا بتلاوة هذه الاَيات على من أمر بتلاوتها عليه ، و«ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أنه ما بعده من الكلام والخبر بعد الذي قبلها .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله : تَماما على الّذِي أحْسَنَ فقال بعضهم : معناه : تماما على المحسنين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : تماما على الّذِي أحْسَنَ قال : على المؤمنين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : تَماما على الّذي أحْسَنَ المؤمنين والمحسنين .
وكأن مجاهدا وجه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده .
فإن قال قائل : فكيف جاز أن يقال : على الّذِي أحْسَنَ فيوحد «الذي » ، والتأويل على الذين أحسنوا ؟ قيل : إن العرب تفعل ذلك خاصة في الذي وفي الألف واللام إذا أرادت به الكلّ والجميع ، كما قال جلّ ثناؤه : وَالعَصْرِ إنّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ وكما قالوا : أكثر الذي هم فيه في أيدي الناس . وقد ذُكِر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «تَماما على الّذِينَ أحْسَنُوا » وذلك من قراءته كذلك يؤيد قول مجاهد . وإذا كان المعنى كذلك ، كان قوله : «أحْسَنَ » فعلاً ماضيا ، فيكون نصبه لذلك . وقد يجوز أن يكون «أحسن » في موضع خفض ، غير أنه نصب ، إذ كان «أفعل » ، و«أفعل » لا يجرى في كلامها . فإن قيل : فبأيّ شيء خفض ؟ قيل : ردّا على «الذي » إذ لم يظهر له ما يرفعه . فيكون تأويل الكلام حينئذٍ : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي هو أحسن ، ثم حذف «هو » ، وجاور «أحسن » «الذي » ، فعرف بتعريفه ، إذ كان كالمعرفة من أجل أن الألف واللام لا يدخلانه ، «والذي » مثله ، كما تقول العرب : مررت بالذي خير منك وشرّ منك ، وكما قال الراجز :
إنّ الزّبَيْرِيّ الّذِي مِثْلُ الحَلَمْ ***مَسّى بأسْلابِكُمْ أهْلَ العَلَمْ
فأتبع «مثل » «الذي » في الإعراب . ومن قال ذلك لم يقل : مررت بالذي عالم ، لأن «عالما » نكرة «والذي » معرفة ، ولا تتبع نكرة معرفة .
وقال آخرون : معنى ذلك : تماما على الذي أحسن موسى فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكَتابَ تَمَاما على الّذِين أحْسَنَ فيما أعطاه الله .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تَمَاما على الّذِي أحْسَنَ قال : من أحسن في الدنيا تمم الله له ذلك في الاَخرة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ثُمّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمَاما على الّذِي أحْسَنَ يقول : من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامته الله في الاَخرة .
وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع تماما على ما أحسن موسى ، أي آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الاَخرة تماما على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته .
وقال آخرون في ذلك : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ تمَاما على الّذِي أحْسَنَ قال : تماما من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام ، وآتاهم ذلك الكتاب تماما لنعمته عليه وإحسانه .
«وأحسن » على هذا التأويل أيضا في موضع نصب على أنه فعل ماض . «والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع بمعنى : «ما » . وذكر عن يحيى بن يعمُر أنه كان يقرأ ذلك : «تَمَاما على الّذِي أحْسَنُ » رفعا ، بتأويل : على الذي هو أحسن .
حدثني بذلك أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا الحجاج ، عن هارون ، عن أبي عمرو بن العلاء ، عن يحيى بن يعمُر .
قال أبو جعفر : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح ، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار .
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال : معناه : ثم آتينا موسى الكتاب تماما لنعمنا عنده على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام ، وأن إيتاء موسى كتابه نعمة من الله عليه ومنة عظيمة ، فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة . ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد كان الكلام : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسنّا ، أو : ثم آتى الله موسى الكتاب تماما على الذي أحسن . وفي وصفه جلّ ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب ثم صرفه الخبر بقوله : «أحسن » ، إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين ، الدليل الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد . وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه «الذي » إلى معنى الجميع فلا دليل في الكلام يدلّ على صحة ما قال من ذلك ، بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام كان أولى معانيه به أغلبه على الظاهر ، إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليل واضح على أنه معنىّ به غير ذلك .
وأما قوله : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ فإنه يعني : وتبيينا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به .
فتأويل الكلام إذن : ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله ، تتمّ به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربه وقيامه بما كلفه من شرائع دينه ، وتبيينا لكلّ ما لقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم . كما :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ فيه حلاله وحرامه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلّهُمْ بِلِقاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ .
يقول تعالى ذكره : آتينا موسى الكتاب تماما وتفصيلاً لكلّ شيء . وَهُدًى يعني بقوله «وهدى » : تقويما لهم على الطريق المستقيم ، وبيانا لهم سبل الرشاد لئلا يضلوا . وَرَحْمَةً يقول : ورحمة منا بهم ، ورأفة ، لننجيهم من الضلالة وعمى الحيرة .
وأما قوله : لَعَلّهُمْ بِلِقَاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ فإنه يعني : إيتائي موسى الكتاب تماما لكرامة الله موسى على إحسان موسى ، وتفصيلاً لشرائع دينه ، وهدى لمن اتبعه ورحمة لمن كان منهم ضالاّ ، لينجيه الله به من الضلالة ، وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه ، فيرتدع عما هو عليه مقيم من الكفر به ، وبلقائه بعد مماته ، فيطيع ربه ، ويصدّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم .
{ ثم آتينا موسى الكتاب } عطف على { وصاكم } ، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ؛ ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك { إنا آتينا موسى الكتاب } . { تماما } للكرامة والنعمة . { على الذي أحسن } على كل من أحسن القيام به ، ويؤيده إن قرئ " على الذين أحسنوا " أو " على الذي أحسن تبليغه " وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام ، أو " تماما على ما أحسنه " أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له . وقرئ بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي " على الذي هو أحسن " أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب . { وتفصيلا لكل شيء } وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين ، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر . { وهدى ورحمة لعلهم } لعل بني إسرائيل . { بلقاء ربهم يؤمنون } أي بلقائه للجزاء .
{ ثُمّ } هنا عاطفة على جملة : { قل تعالوا } [ الأنعام : 151 ] فليست عاطفة للمفردات ، فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان ، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة ، وهو مهلة مجازيّة ، وتلك دلالة ( ثُم ) إذا عطفت الجُمَل . وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك ( ثُمّ ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام . وتعدّدت آراء المفسّرين في محمل ( ثُمّ ) هنا إلى آراء : للفراء ، والزجاج ، والزّمخشري ، وأبي مسلم ، وغيرهم ، كلّ يروم التخلّص من هذا المضيق .
والوجه عندي : أنّ ( ثُمّ ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي ، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن ، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام ، إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام ، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } [ الأنعام : 92 ] ليرتّب عليه قوله : { أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا } إلى قوله : { وهدى ورحمة } [ الأنعام : 156 ، 157 ] ، فمعنى الكلام : وفوْق ذلك فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام ( وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله ) وما في القرآن : الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه ؛ إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين ، فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن ، وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب .
ومناسبة هذا الانتقال : ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام ، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ( 91 ) الآية ، في هذه السّورة ، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض .
و{ الكتاب } هو المعهود ، أي التّوراة ، و { تماما } حال من الكتاب ، والتّمام الكمال ، أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم : من صلاح إبراهيم ، وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام ، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم ، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد ، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح . ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ .
والموصول في قوله : { على الذي أحسن } مراد به الجنس ، فلذلك استوى مفرده وجمعه .
والمراد به هنا الفريق المحسن ، أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل ، فالفعل منزّل منزلة اللاّزم ، أي الذي اتَّصف بالإحسان .
والتّفصيل : التّبيين ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وكذلك نفصّل الآيات } في هذه السّورة ( 55 ) .
و{ كلّ شيء } مراد به أعظم الأشياء ، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين . فتكون ( كلّ ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } في سورة البقرة ( 145 ) . أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها .
أو يراد بالشّيء : الشّيء المهمّ ، فيكون من حذف الصّفة ، كقوله : { يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] ، أي كلّ سفينة صالحة ، ومثله قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] .
وقوله : { لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون } رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم ، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل ، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل ، ومعنى ذلك : لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم ، على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم ، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة ، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة : من أطوار مجاورة القبط ، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد ، ما رفع منهم العلم ، وأذْوَى الأخلاق الفاضلة ، فنسوا مراقبة الله تعالى ، وأفسدوا ، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله ، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام ، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه ، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم . وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب ، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح ، فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث ، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم آتينا موسى الكتاب}، يعني أعطينه التوراة، {تماما على الذي أحسن}، يقول: تمت الكرامة على من أحسن منهم في الدنيا والآخرة، فتمم الله لبني إسرائيل ما وعدهم من قوله: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا...} (القصص: 5-6) إلى آيتين، ثم قال: {وتفصيلا لكل شيء و} التوراة {وهدى} من الضلالة، {ورحمة} من العذاب، {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}، يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ثُمّ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ": ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتاب. فترك ذكر «قل»، إذ كان قد تقدم في أوّل القصة ما يدلّ على أنه مراد فيها، وذلك قوله: "قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ..."...
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: "تَماما على الّذِي أحْسَنَ"؛ فقال بعضهم: معناه: تماما على المحسنين... عن مجاهد: تَماما على الّذي أحْسَنَ المؤمنين والمحسنين.
وكأن مجاهدا وجه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جلّ ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده...
وقال آخرون: معنى ذلك: "تماما على الذي أحسن": موسى فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه... أي آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة تماما على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته.
وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تماما لنعمنا عنده على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا، لأن ذلك أظهر معانيه في الكلام، وأن إيتاء موسى كتابه نعمة من الله عليه ومنة عظيمة، فأخبر جلّ ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحسن طاعة... وأما قوله: "وَتَفْصِيلاً لِكُلّ شَيْءٍ "فإنه يعني: وتبيينا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به.
فتأويل الكلام إذن: ثم آتينا موسى التوراة تماما لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله، تتمّ به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربه وقيامه بما كلفه من شرائع دينه، وتبيينا لكلّ ما لقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم... "وَهُدًى وَرَحمَةً لَعَلّهُمْ بِلِقاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ" يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تماما وتفصيلاً لكلّ شيء. "وَهُدًى" يعني بقوله «وهدى»: تقويما لهم على الطريق المستقيم، وبيانا لهم سبل الرشاد لئلا يضلوا. "وَرَحْمَةً" يقول: ورحمة منا بهم، ورأفة، لننجيهم من الضلالة وعمى الحيرة.
وأما قوله: "لَعَلّهُمْ بِلِقَاءِ رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ" فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تماما لكرامة الله موسى على إحسان موسى، وتفصيلاً لشرائع دينه، وهدى لمن اتبعه ورحمة لمن كان منهم ضالاّ، لينجيه الله به من الضلالة، وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه، فيرتدع عما هو عليه مقيم من الكفر به، وبلقائه بعد مماته، فيطيع ربه، ويصدّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يهوِّن عليهم مشقة مقاساة التكليف بما ذكر من التعريف بأنَّ الذين كانوا قبلنا كانوا في الضعف والعجز مثلها، ثم صَبرُوا فظَفروا، وأخْلَصُوا فخَلُصُوا...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله -تعالى -: (ثم آتينا موسى الكتاب) فإن قيل: كيف قال: (ثم آتينا موسى الكتاب) بعد ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وموسى أوتي الكتاب قبله، وكلمة "ثم "للتعقيب؟ قيل: معناه: ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
سبق في هذه السورة وغيرها الجمع بين ذكر التوراة والقرآن للتذكير بالتشابه بينهما لأن العرب كانوا يعلمون أن اليهود المجاورين لهم أهل كتاب اسمه التوراة ولهم رسول اسمه موسى وأنهم أهل علم وشريعة وكان بعض عقلائهم يتمنى لو يؤتى العرب مثلما أوتي اليهود، ويقولون إنه لو جاءهم كتاب مثل كتابهم لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا لما يعتقدون من امتيازهم عليهم بالذكاء والعقل وعلو الهمة...
وقوله تعالى: {تماما على الذي أحسن} معناه آتينا موسى الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به كما قال في أواخر ما نزل من القرآن {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة 3) وقيل إن المعنى آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشريعة كقوله: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} (الأعراف 145) جزاء على إحسانه أو تماما على إحسانه...
وقوله تعالى {وتفصيلا لكل شيء} عام في بابه: أي مفصلا كل شيء من أحكام الشريعة كالعبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب "وهدى ورحمة "أي علما من أعلام الهداية وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به "لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون" أي آتاه الكتاب جامعا لما ذكر ليعد به قومه ويجعلهم محل الرجاء للإيمان بلقاء الله تعالى في دار كرامته التي أعدها للمؤمنين المهتدين بوحيه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثُمّ} هنا عاطفة على جملة: {قل تعالوا} [الأنعام: 151] فليست عاطفة للمفردات، فلا يُتوهَّم أنَّها لتراخي الزّمان، بل تنسلخ عنه حين تعطف الجمل فتدل على التّراخي في الرّتبة، وهو مهلة مجازيّة، وتلك دلالة (ثُم) إذا عطفت الجُمَل. وقد استصعب على بعض المفسّرين مسلك (ثُمّ) في هذه الآية لأنّ إتيان موسى عليه السّلام الكتاب ليس برتبة أهمّ من رتبة تلاوة ما حرّمه الله من المحرّمات وما فرضه من اتّباع صراط الإسلام... والوجه عندي: أنّ (ثُمّ) ما فارقت المعروف من إفادة التّراخي الرّتبي، وأنّ تراخي رتبة إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب عن تلاوة ما حَرّم الله في القرآن، وما أمر به من ملازمة صراط الإسلام، إنَّما يظهر بعد النَّظر إلى المقصود من نظم الكلام، فإنّ المقصود من ذكر إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب ليس لذاته بل هو التّمهيد لقوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام: 92] ليرتّب عليه قوله: {أن تقولوا إنَّما أنْزِل الكتابُ على طائفتين من قبلنا} إلى قوله: {وهدى ورحمة} [الأنعام: 156، 157]، فمعنى الكلام: وفوْق ذلك، فهذا كتاب أنزلناه مبارك جمع فيه ما أوتيه موسى عليه السّلام (وهو أعظم ما أوتيه الأنبياء من قبله) وما في القرآن: الذي هو مصدّق لما بين يديه ومهيمن عليه؛ إن اتَّبعتموه واتَّقيتم رَحمناكم ولا معذرة لكم أن تقولوا لو أنزل لنا كتاب لكنّا أفضل اهتداءً من أهل الكتابين، فهذا غرض أهمّ جمعاً لاتّباع جميع ما اشتمل عليه القرآن، وأدْخل في إقناع المخاطبين بمزية أخذهم بهذا الكتاب.
ومناسبة هذا الانتقال: ما ذكر من صراط الله الذي هو الإسلام، فإنّ المشركين لمّا كذّبوا دعوة الإسلام ذكَّرهم الله بأنَّه آتى موسى عليه السّلام الكتاب كما اشتهر بينهم حسبما بيّناه عند قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} (91) الآية، في هذه السّورة، لينتقل إلى ذكر القرآن والتّحريض على اتّباعه فيكون التّذكير بكتاب موسى عليه السّلام تمهيداً لذلك الغرض.
و {الكتاب} هو المعهود، أي التّوراة، و {تماما} حال من الكتاب، والتّمام الكمال، أي كان ذلك الكتاب كمالاً لما في بني إسرائيل من الصّلاح الذي هو بقيّة ممّا تلقّوه عن أسلافهم: من صلاح إبراهيم، وما كان عليه إسحاق ويعقوبُ والأسباط عليهم السّلام، فكانت التّوراة مكمّلة لصلاحهم، ومزيلة لما اعتراهم من الفساد، وأنّ إزالة الفساد تكملة للصّلاح. ووصف التّوراة بالتّمام مبالغة في معنى المُتِمّ.
والموصول في قوله: {على الذي أحسن} مراد به الجنس، فلذلك استوى مفرده وجمعه.
والمراد به هنا الفريق المحسن، أي تماماً لإحسان المحسنين من بنِي إسرائيل، فالفعل منزّل منزلة اللاّزم، أي الذي اتَّصف بالإحسان.
والتّفصيل: التّبيين، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وكذلك نفصّل الآيات} في هذه السّورة (55).
و {كلّ شيء} مراد به أعظم الأشياء، أي المهمّات المحتاج إلى بيان أحكامها في أحوال الدّين. فتكون (كلّ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدّم في قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} في سورة البقرة (145). أو في معنى العظيم من الأشياء كأنَّه جمع الأشياء كلّها.
أو يراد بالشّيء: الشّيء المهمّ، فيكون من حذف الصّفة، كقوله: {يأخذ كل سفينة غصباً} [الكهف: 79]، أي كلّ سفينة صالحة، ومثله قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38].
وقوله: {لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون} رجاء أن تؤمنوا بلقاء ربّهم، والضّمير عائد إلى معلوم من المقام وهم بنو إسرائيل، إذ قد علم من إيتاء موسى عليه السّلام الكتاب أنّ المنتفعين به هم قومه بنو إسرائيل، ومعنى ذلك: لعلّهم إن تحَرّوا في أعمالهم، على ما يناسب الإيمانَ بلقاء ربّهم، فإنّ بني إسرائيل كانوا مؤمنين بلقاء الله من قبل نزول التّوراة، ولكنّهم طرأ عليهم من أزمنة طويلة: من أطوار مجاورة القبط، وما لحقهم من المذلّة والتغرّب والخصاصة والاستعباد، ما رفع منهم العلم، وأذْوَى الأخلاق الفاضلة، فنسوا مراقبة الله تعالى، وأفسدوا، حتّى كان حالهم كحال من لا يؤمن بأنَّه يلقى الله، فأراد الله إصلاحهم ببعثة موسى عليه السّلام، ليرجعوا إلى ما كان عليه سلفهم الصّالح من مراقبة الله تعالى وخشية لقائه، والرّغبة في أن يلقوه وهو راض عنهم. وهذا تعريض بأهل مكة ومن إليهم من العرب، فكذلك كان سلفهم على هدى وصلاح، فدخل فيهم من أضلّهم ولقَّنهم الشّرك وإنكارَ البعث، فأرسل الله إليهم محمّدا صلى الله عليه وسلم ليردّهم إلى الهدى ويؤمنوا بلقاء ربّهم.