القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلآ إِنّهَا قُرْبَةٌ لّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن الأعراب من يصدق الله ويقرّ بوحدانيته وبالبعث بعد الموت والثواب والعقاب ، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ القربات : جمع قُرْبة ، وهو ما قربه من رضا الله ومحبته . وَصَلوَاتِ الرّسُولِ ، يعني بذلك : ويبتغي بنفقة ما ينفق مع طلب قربته من الله دعاء الرسول واستغفاره له .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا على أن من معاني الصلاة الدعاء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَصَلوَاتِ الرّسُولِ يعني استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ومِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ قال : دعاء الرسول ، قال : هذه ثنية الله من الأعراب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ قال : هم بنو مقرن من مزينة ، وهم الذين قال الله فيهم : وَلا على الّذِينَ إذَا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ علَيْهِ تَوَلّوْا وأعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْع حَزَنا قال : هم بنو مُقَرن من مزينة .
قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا ثم استثنى فقال : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ . . . الآية .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا جعفر ، عن البختري بن المختار العبدي ، قال : سمعت عبد الله بن مُغَفّل قال : كنا عشرة ولد مُقَرّن ، فنزلت فينا : وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ باللّهِ واليَوْمِ الاَخِرِ . . . إلى آخر الآية .
قال الله : أَلاَ إنهَا قُرْبةٌ لَهُمْ ، يقول تعالى ذكره : ألا إن صلوات الرسول قربة لهم من الله ، وقد يحتمل أن يكون معناه : ألا إن نفقته التي ينفقها كذلك قربة لهم عند الله . سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ في رحْمَتِهِ يقول : سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة ، إن الله غفور لما اجترموا ، رحيم بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم .
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قُربات عند الله } سبب { قربات } وهي ثاني مفعولي { يتخذ } ، وعند الله صفتها أو ظرف ل { يتخذ } . { وصلوات الرسول } وسبب صلواته لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ، ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى الله عليه وسلم " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره . { إلا إنها قُربة لهم } شهادة من الله بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش { قربة } بضم الراء . { سيدخلهم الله في رحمته } وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله : { إن الله غفور رحيم } لتقريره . وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد الله ذي البجادين وقومه .
هؤلاء هم المؤمنون من الأعراب وفَّاهم الله حقهم من الثناء عليهم ، وهم أضداد الفريقين الآخَرين المذكورين في قوله : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً } [ التوبة : 97 ] وقوله { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مَغرماً } [ التوبة : 97 ] . قيل : هم بنو مُقَرّن من مزينة الذين نزل فيهم قوله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } [ التوبة : 92 ] الآية كما تقدم . ومن هؤلاء عبد الله ذو البجادين المزَني هو ابن مغفل . والإنفاق هنا هو الإنفاق هناك . وتقدم قريباً معنى { يتخذ } .
و { قربات } بضم القاف وضم الراء : جمع قربة بسكون الراء . وهي تطلق بمعنى المصدر ، أي القرب وهو المراد هنا ، أي يتخذون ما ينفقون تقرباً عند الله . وجَمْع قربات باعتبار تعدد الإنفاق ، فكل إنفاق هو قربة عند الله لأنه يوجب زيادة القرب . قال تعالى : { يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب } [ الإسراء : 57 ] . ف { قربات } هنا مجاز مستعمل في رضى الله ورفع الدرجات في الجنة ، فلذلك وصفت ب { عند } الدالة على مكان الدنو . و ( عند ) مجاز في التشريف والعناية ، فإن الجنة تشبّه بدار الكرامة عند الله . قال تعالى : { إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 54 ، 55 ] .
و { وصلوات الرسول } دعواته . وأصل الصلاة الدعاء . وجمعت هنا لأن كل إنفاق يقدمونه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بسببه دعوة ، فبتكرر الإنفاق تتكرر الصلاة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على كل من يأتيه بصدقته وإنفاقه امتثالاً لما أمره الله بقوله : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] . وجاء في حديث ابن أبي أوفَى أنه لما جاء بصدقته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « اللهم صل على آل أبي أوْفَى » .
ويجوز عطف { صلوات الرسول } على اسم الجلالة معمولاً ل { عند } ، أي يتخذون الإنفاق قربة عند صلوات الرسول ، أي يجعلونه تقرباً كائناً في مكان الدنو من صلوات الرسول تشبيهاً للتسبب في الشيء بالاقتراب منه ، أي يجعلون الإنفاق سبباً لدعاء الرسول لهم . فظرف ( عند ) مستعمل في معنيين مجازيين . ويجوز أن يكون { وصلوات الرسول } عطفاً على { قربات عند الله } ، أي يتخذ ما ينفق دعوات الرسول . أخبر عن الإنفاق باتخاذه دعوات الرسول لأنه يتوسل بالإنفاق إلى دعوات الرسول إذ أمر بذلك في قوله تعالى : { وصل عليهم } [ التوبة : 103 ] .
وجملة : { ألا إنها قربة لهم } مستأنفة مسوقة مساق البشارة لهم بقبول ما رجوه . وافتتحت الجملة بحرف الاستفتاح للاهتمام بها ليعيها السامع ، وبحرف التأكيد لتحقيق مضمونها ، والضمير الواقع اسم ( إنَّ ) عائد إلى ما ( ينفق ) باعتبار النفقات . واللام للاختصاص ، أي هي قربة لهم ، أي عند الله وعند صلوات الرسول . وحذف ذلك لدلالة سابق الكلام عليه . وتنكير { قربة } لعدم الداعي إلى التعريف ، ولأن التنكير قد يفيد التعظيم .
وجملة : { سيدخلهم الله في رحمته } واقعة موقع البيان لجملة { إنها قربة لهم } ، لأن القربة عند الله هي الدرجات العلى ورضوانه ، وذلك من الرحمة . والقربة عند صلوات الرسول صلى الله عليه وسلم إجابة صلاته . والصلاة التي يدعو لهم طلب الرحمة ، فمآل الأمرين هو إدخال الله إياهم في رحمته . وأوثر فعل الإدخال هنا لأنه المناسب للكون في الجنة ، إذ كثيراً ما يقال : دخل الجنة . قال تعالى : { وادخلي جنتي } [ الفجر : 30 ] .
وجملة : { إن الله غفور رحيم } تذييل مناسب لما رجوه وما استجيب لهم . وأثبت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الخبر ، أي غفور لما مضى من كفرهم ، رحيم بهم يفيض النعم عليهم .
وقرأ الجمهور { قرْبة } بسكون الراء ، وقرأه ورش وحده بضم الراء لاتباع القاف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.