القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْناً عَلَىَ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيّ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : وأمرنا الإنسان ببرّ والديه حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : ضعفا على ضعف ، وشدّة على شدّة ومنه قول زهير :
فَلَنْ يَقُولُوا بِحَبْلٍ وَاهِنٍ خَلَقٍ *** لَوْ كانَ قَوْمُكَ فِي أسْبابِه هَلَكُوا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، غير أنهم اختلفوا في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : عنى به الحمل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : شدّة بعد شدّة ، وخلقا بعد خلق .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَهْنا عَلى وَهْنٍ يقول : ضعفا على ضعف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ وَهْنا عَلى وَهْنٍ أي جهدا على جهد .
وقال آخرون : بل عنى به : وهن الولد وضعفه على ضعف الأمّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَهْنا عَلى وَهْنٍ قال : وهن الولد على وهن الوالدة وضعفها .
وقوله : وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ يقول : وفطامه في انقضاء عامين . وقيل : وَفِصَالُهُ فِي عامَيْنِ وترك ذكر «انقضاء » اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، كما قيل : وَاسأَلِ القَرْيَةَ التي كُنّا فِيهَا يراد به أهل القرية .
وقوله : أنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ يقول : وعهدنا إليه أن اشكر لي على نعمي عليك ، ولوالديك تربيتهما إياك ، وعلاجهما فيك ما عالجا من المشقة حتى استحكم قواك . وقوله : إليّ المَصِيرُ يقول : إلى الله مصيرك أيها الإنسان ، وهو سائلك عما كان من شكرك له على نعمه عليك ، وعما كان من شكرك لوالديك ، وبرّك بهما على ما لقيا منك من العناء والمشقة في حال طفوليتك وصباك ، وما اصطنعا إليك في برّهما بك ، وتحننهما عليك .
وذُكر أن هذه الاَية نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه . ذكر الرواية الواردة في ذلك :
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، قال : حلفت أمّ سعد أن لا تأكل ولا تشرب ، حتى يتحوّل سعد عن دينه . قال : فأبى عليها . فلم تزل كذلك حتى غشي عليها . قال : فأتاها بنوها فسقوها . قال : فلما أفاقت دعت الله عليه ، فنزلت هذه الاَية : وَوَصيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ . . . إلى قوله : فِي الدّنْيا مَعْرُوفا .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : قالت أمّ سعد لسعد : أليس الله قد أمر بالبرّ ، فوالله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ، ثم أوجروها ، فنزلت هذه الاَية : وَوَصّيْنا الإنْسانَ بِوَالِدَيْهِ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن سماك بن حرب ، قال : قال سعد بن مالك : نزلت فيّ : وَإنْ جاهَدَاكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ، وَصَاحِبْهُما فِي الدّنْيا مَعْرُوفا قال : لما أسلمت ، حلفت أمي لا تأكل طعاما ولا تشرب شرابا ، قال : فناشدتها أوّل يوم ، فأبت وصبرت فلما كان اليوم الثاني ناشدتها ، فأبت فلما كان اليوم الثالث ناشدتها فأبت ، فقلت : والله لو كانت لك مئة نفس لخرجت قبل أن أدع ديني هذا فلما رأت ذلك ، وعرفت أني لست فاعلاً أكلت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت أبا هبيرة يقول : قال : نزلت هذه الاَية في سعد بن أبي وقاص وَإنْ جاهَداكَ عَلى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا . . . الاَية .
{ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا } ذات وهن أو تهن { وهنا على وهن } أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال ، وقرئ بالتحريك ويقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا . { وفصاله في عامين } وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة ، وقرئ " وفصله في عامين " وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان . { أن اشكر لي ولوالديك } تفسير ل { وصينا } أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال من أبر أمك ثم " أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك " . { إلي المصير } فأحاسبك على شكرك وكفرك .
هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان ، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده ، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان ، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر ، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضاً لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه ، وهذه الآية شرك{[9359]} الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما ، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع{[9360]} فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ «قال : أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال ثم أباك »{[9361]} فجعل له الربع من المبرة كالآية . { وهناً على وهن } معناه ضعفاً على ضعف ، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولاد بعده ، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه ، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف ، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره ، وقرأ عيسى الثقفي «وهَناً على وهَن » بفتح الهاء ، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «وفصاله » ، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله » ، وأشار ب «الفصال » إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته ، والناس مجموع على العامين{[9362]} في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين{[9363]} لا زيادة ولا نقص ، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم ، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقوله تعالى : { أن اشكر } يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر » ، ويحتمل أن تكون مفسرة ، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى . ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما ، وقوله تعالى : { إليّ المصير } توعد أثناء الوصية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.