القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
وهذا تَقَدّمٌ من الله جلّ ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله لا يعملوا عملاً إلا لله خاصة وطلب ما عنده لا رئاء الناس كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس وذلك أنهم أخبروا بفوت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقيل لهم : انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها ، فأبوا وقالوا : نأتي بدرا فنشرب بها الخمر وتعزف علينا القيان وتتحدث بنا العرب لمكانتنا فيها . فسقوا مكان الخمر كؤوس المنايا . كما :
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة قال : كانت قريش قبل أن يلقاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه : إنا قد أجزنا القوم فارجعوا فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشا بالرجعة بالجحفة ، فقالوا : والله لا نرجع حتى ننزل بدرا فنقيم فيه ثلاث ليال ويرانا من غشينا من أهل الحجاز ، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا وهم الذين قال الله : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم ، ففتح الله على رسوله وأخزى أئمة الكفر ، وشفى صدور المؤمنين منهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق في حديث ذكره ، قال : ثني محمد بن مسلم وعاصم بن عمرو ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا ، عن ابن عباس ، قال : لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره ، أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم بها سوق كلّ عام فنقيم عليه ثلاثا ، وننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمور ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا فامضوا
قال ابن حميد : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ : أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا : لا نرجع حتى نأتي بدرا وننحر بها الجزر ونسقي بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أي لا يكوننّ أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس ، وأخلصوا لله النية والحسبة في نصر دينكم ، وموازرة نبيكم أي لا تعملوا إلا لله ولا تطلبوا غيره .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : أصحاب بدر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . قال ابن جريج : وقال عبد الله بن كثير : هم مشركو قريش ، وذلك خروجهم إلى بدر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ يعني المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ قال : هم قريش وأبو جهل وأصحابه الذين خرجوا يوم بدر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل لهم يومئذ : ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم قالوا : لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال يومئذ : «اللّهُم إن قُرَيْشا أقْبَلَتْ بِفَخْرِها وخُيَلائها لِتُحادّكَ وَرَسُولكَ » .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : ذكر المشركين وما يطعمون على المياه ، فقال : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا قال : هم المشركون خرجوا إلى بدر أشرا وبطرا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : وَلا تَكُونُوا كالّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَرا وَرِئاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .
فتأويل الكلام إذن : ولا تكونوا أيها المؤمنون بالله ورسوله في العمل بالرياء والسمعة وترك إخلاص العمل لله واحتساب الأجر فيه ، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرا ومراءاة الناس بزيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم . وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام بقتالهم إياهم وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله ، والله بما يعملون من الرياء والصدّ عن سبيل الله وغير ذلك من أفعالهم محيط ، يقول : عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه منه شيء وذلك أن الأشياء كلها له متجلية ، لا يعزب عنه منها شيء ، فهو لهم بها معاقب وعليها معذّب .
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير . { بطرا } فخرا وأشرا . { ورئاء الناس } ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم فقال أبو جهل : لا والله حتى نقدم بدرا ونشرب فيها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا وناحت عليهم النوائح ، فنهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين ، وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء أمر بضده . { ويصدّون عن سبيل الله } معطوف على بطراً إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر . { والله بما يعملون محيط } فيجازيكم عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.