ثم يحكى القرآن الرذيلة الرابعة من رذائلهم وملخصها : أنهم زعموا أن الأجنة التى فى بطون هذه الأنعام المحرمة ، ما ولد منها حياً فهو حلال للرجال ومحرم على النساء ، وما ولد ميتاً اشترك فى أكله الرجال والنساء .
استمع إلى القرآن وهو يفضح زعمهم هذا فيقول : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } ومرادهم بما فى بطون هذه الأنعام أجنة البحائر والسوائب .
أى : ومن فنون كفرهم أنهم قالوا ما فى بطون هذه الأنعام المحرمة إذا نزل منها حياً فأكله حلال للرجال دون النساء ، وإذا نزل ميتاً فأكله حلالا للرجال والنساء على السواء .
وفى رواية العوفى عن ابن عباس أن المراد بما فى بطونها اللبن ، فقد كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذاولدت ذكراً ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء .
قال بعضهم : " ومن مباحث اللفظ فى الآية أن قوله " خالصة " فيه وجوه :
أحدها : أن التاء قيد للمبالغة فى الوصف كراوية وداهية فلا يقال إنه غير مطابق للمبتدأ على القول بأنه خبر .
وثانيا : أن المبتدأ وهو { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام } مذكر اللفظ مؤنث المعنى ، لأن المراد به الأجنة فيجوز تذكير خبره باعتبار اللفظ وتأنيثه باعتبار المعنى .
وثالثها : أنه مصدر فتكون العبارة مثل قولهم : عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخصة نعمة .
ورابعها : أنه مصدر مؤكد أو حال من المستكن فى الظرف وخبر المبتدأ { لِّذُكُورِنَا } .
وقوله : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ } تهديد لهم أى : سيجزيهم بما هم أهله من العذاب المهين جزاء وصفهم أو بسبب وصفهم الكذب على الله فى أمر التحليل والتحريم على سبيل التحكم والتهجم بالباطل على شرعه . إنه - سبحانه - حكيم فى أقواله وأفعاله وشرعه ، عليم بأعمال عباده من خير أو شر وسيجازيهم عليها .
قال الآلوسى : ونصب { وَصْفَهُمْ } - على ما ذهب إليه الزجاج - لوقوعه موقع مصدر { سَيَجْزِيهِمْ } فالكلام على تقدير مضاف . أى : جزاء وصفهم . وقيل : التقدير . سيجزيهم العقاب بوصفهم أى : بسببه فلما سقطت الباء نصب وصفهم .
ثم قال : وهذا كما قال بعض المحققين من بليغ الكلام وبديعه ، فإنهم يقولون ، كلامه يصف الكذب إذا كذب ، وعينه تصف السحر ، أى ساحرة ، وقد يصف الرشاقة ، بمعنى رشيق . مبالغة ، حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له " .
وإلى هنا تكون الآيات الأربعة التى بدأت بقوله - تعالى - { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } . . . إلخ . قد قصت علينا أربع رذائل من أفعال المشركين وأقوالهم .
وإن العاقل ليعجب وهو يستعرض هذه الضلالات - التى حكتها الآيات . يعجب لما تحملوه فى سبيل ضلالاتهم من أعباء مادية وخسائر وتضحيات ، يعجب للعقيدة الفاسدة وكيف تكلف أصحابها الكثير ومع ذلك فهم مصرون على اعتناقها ، وعلى التقيد بأغلالها ، وأوهامها ، وتبعاتها .
لكأن القرآن وهو يحكى تلك الرذائل وما تحمله أصحابها فى سبيلها يقول لأتباعه - من بين ما يقول - إذا كان أصحاب العقائد الفاسدة قد ضحوا حتى بقلذات أكبادهم إرضاء لشركائهم . . . فأولى بكم ثم أولى أن تضحوا فى سبيل عقيدتكم الصحيحة ، وملتكم الحنيفية السمحاء بالأنفس والأموال .
عطف على قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] . وأعيد فعل : { قالوا } لاختلاف غرض المقول .
والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها ، كما تقدّم ، أو إلى الأنعام المذكورة قبل . ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً ، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها ، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة : إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء ، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء ، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله : { وإن يكن ميتة } وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة : يشربها الرّجال دون النّساء ، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها ، وروي عن ابن عَبّاس ، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها .
والخالصة : السّائغة ، أي المباحة ، أي لا شائبةَ حَرج فيها ، أي في أكلها ، ويقابله قوله : { ومحرم } .
وتأنيث { خالصة } لأنّ المراد بمَا الموصولة { الأجِنَّة } فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير { محرّم } .
والمحرّم : الممنوع ، أي ممنوع أكله ، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء .
والأزواج جمع زوج ، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره ، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج ، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً ، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة } في سورة البقرة ( 35 ) .
وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً ، وأضافوهنّ إلى ضميرهم ، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال : امرأة فلان . وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم : مثللِ العقم ، أو سوءِ المعاشرة مع الأزواج ، والنّشوز ، أو الفراق ، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهليّة وتكاذيبهم ، أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة ، فلا تحلّ للنّساء ، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة ، لأجل الحيض ونحو ذلك ، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النّساء دخول المساجد ، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض ، وقالت كبشة بنت معديكرب تعيّر قومها :
ولا تَشرَبُوا إلاّ فُضُولَ نسائكم *** إذا ارتَمَلَتْ أعقابُهن منَ الدّم
وقال جمهور المفسّرين : أطلق الأزواج على النّساء مطلقاً ، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتّقييد ، فيشمل المرأة الأيّم ولا يشمل البناتِ ، وقال بعضهم : أريد به البنات أي بمجاز الأوْل فلعلّهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التّزوّج ، أو ما يتعيَّرون منه ، أو نحو ذلك .
وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد .
وأمّا قوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج ، أو للرّجال والنّساء ، أو للرّجال والنّساء والبنات ، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة ، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك .
وقرأ الجمهور : { وإن يكن } بالتحتيّة ونصب { ميتة } . وقرأ ابنُ كثير برفع { ميتة } ، على أنّ كان تامّة ، وقد أجري ضمير : { يَكُن } على التّذكير : لأنّه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التّذكير لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث ، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك } [ محمد : 16 ] . وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث { خالصة } ، أي إن تكن الأجنّة ، وقرأ { ميتة } بالنّصب ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب .
وجملة : { سيجزيهم وصفهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كما قلتُ في جملة : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } [ الأنعام : 138 ] آنفاً .
والوصف : ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما ، وتقدّم في قوله : { سبحانه وتعالى عمّا يصفون } في هذه السّورة ( 100 ) . والوصف ، هنا : هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق ، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : { ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ النحل : 116 ] .
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام ، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله . وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف ، أي : سيجْزيهم جزاءَ وصفهم . ضمّن { يجزيهم } معنى يُعطيهم ، أي جزاء وفاقاً له .
وجملة : { إنه حكيم عليم } تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم . وتؤذن ( إنّ ) بالربط والتّعليل ، وتُغني غناء الفاء ، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها ، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين ، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.