ثم أكد - سبحانه - أنهم عند الشدائد والكروب لا يلجأون إلا إلى الله فقال - تعالى - : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } .
بل للإضراب الانتقالى عن تفكيرهم وأوهامهم ، أى : بل تخصونه وحده بالدعاء دون الآلهة ، فيكشف ما تلتمسون كشفه إن شاء ذلك ، لأنه هو القادر على كل شىء { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أى : تغيب عن ذاكرتكم عند الشدائد والأهوال تلك الأصنام الزائفة والمعبودات الباطلة .
وقدم - سبحانه - المفعول على الفعل فى قوله : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ } لإفادة الاختصاص ، أى : لا تدعون إلا إياه ، وذلك يدل على أن المشركين مهما بلغ ضلالهم فإنهم عند الشدائد يتجهون بتفكيرهم إلى القوة الخفية الخالقة لهذا الكون .
وفى قوله { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ } استعارة حيث شبه حال إزالة الشر بحال كشف غطاء غامر مؤلم بجامع إزالة الضر فى كل وإحلال السلامة محله .
والمقصود فيكشف الضر الذى تدعونه أن يكشفه : فالكلام على تقدير حذف مضاف .
وجواب الشرط لقوله : { إِنْ شَآءَ } محذوف لفهم المعنى ودلالة ما قبله عليه ، أى إن شاء أن يكشف الضر كشفه ، لأنه - سبحانه - لا يسأل عما يفعل .
لذلك كان موقع { بَل إيّاه تدعون } عقب هذا الاستفهام موقع النتيجة للاستدلال . فحرف ( بل ) لإبطال دعوة غير الله . أي فأنا أجيب عنكم بأنّكم لا تدعون إلاّ الله . ووجه تولّي الجواب عنهم من السائل نفسِه أنّ هذا الجواب لمّا كان لا يسع المسؤول إلاّ إقرارُه صحّ أن يتولّى السائل الجوابَ عنه ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله } في هذه السورة [ 12 ] .
وتقديم المفعول على { تَدْعون } للقصر وهو قصر إفراد للردّ على المشركين في زعمهم أنّهم يدعون الله ويدعون أصنامهم ، وهم وإن كانوا لم يزعموا ذلك في حالِ ما إذا أتاهم عذاب الله أو أتتهم الساعة إلاّ أنّهم لمّا ادّعوه في غير تلك الحالة نزّلوا منزلة من يستصحب هذا الزعم في تلك الحالة أيضاً .
وقوله : { فيكشف } عطف على { تدعون } ، وهذا إطماع في رحمة الله لعلّهم يتذكّرون . ولأجل التعجيل به قدّم { وتنسوْن ما تشركون } وكان حقّه التأخير .
فهو شبيه بتعجيل المسرّة . ومفعول : { تدعون } محذوف وهو ضمير اسم الجلالة ، أي ما تدعونه . والضمير المجرور بِ ( إلى ) عائد على { ما } من قوله { ما تدعون } أي يكشف الذي تدعونه إلى كشفه . وإنّما قيّد كشف الضرّ عنهم بالمشيئة لأنَّه إطماع لا وعد .
وعديّ فعل { تدعون } بحرف ( إلى ) لأنّ أصل الدعاء نداء فكأنّ المدعو مطلوب بالحضور إلى مكان اليأس .
ومفعول { شاء } محذوف على طريقة حذف مفعول فعل المشيئة الواقع شرطاً ، كما تقدّم آنفاً .
وفي قوله : { إن شاء } إشارة إلى مقابله ، وهو إن لم يشأ لم يكشف ، وذلك في عذاب الدنيا . وأما إتيان الساعة فلا يُكشف إلاّ أن يراد بإتيانها ما يحصل معها من القوارع والمصائب من خسف وشبهه فيجوز كشفه عن بعض الناس . وممَّا كشفه الله عنهم من عذاب الدنيا عذابُ الجوع الذي في قوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم } إلى قوله { إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون يوم نبطش البطشة الكبرى إنّا منتقمون } [ الدخان : 10 16 ] فُسّرت البطشة بيوم بدر .
وجملة : { فيكشف } الخ معترضة بين المعطوفين . وقوله : { وتنسون ما تشركون } عطف على { إيّاه تدعون } ، أي فإنّكم في ذلك الوقت تنسون ما تشركون مع الله ، وهو الأصنام .
وقوله : { وتنسون ما تُشركون } يجوز أن يكون النسيان على حقيقته ، أي تذهلون عن الأصنام لِمَا ترون من هول العذاب وما يقع في نفوسهم من أنّه مرسل عليهم من الله فتنشغل أذهانهم بالذي أرسل العذاب وينسون الأصنام التي اعتادوا أن يستشفعوا بها .
ويجوز أن يكون مجازاً في الترك والإعراض ، أي وتعرضون عن الأصنام ، إذ لعلَّهم يلهمون أن يستدلّون في تلك الساعة على أنّ غير الله لا يكشف عنهم من ذلك العذاب شيئاً ، وإطلاق النسيان على الترك شائع في كلام العرب ، كما في قوله تعالى : { فاليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا } [ الجاثية : 34 ] ، أي نهملكم كما أنكرتم لقاء الله هذا اليوم . ومن قبيله قوله تعالى : { الذين هم عن صلاتهم ساهون } [ الماعون : 5 ] .
وفي قوله : { فيكشف ما تدعون إليه إن شاء } دليل على أنّ الله تعالى قد يجيب دعوة الكافر في الدنيا تبعاً لإجراء نعم الله على الكفّار . والخلاف في ذلك بين الأشعري والماتريدي آئل إلى الاختلاف اللفظي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.